مملكة الإبداع

إنها مملكة أهديها إلى أعز الناس، وأحب الناس، وأغلى الناس، فهي من أرشدتني إلى إنشائها وإليها أهدي كل الكلمات..

بروتسوين

(هذا هو الطريق)..

أشار فارس ملثم إلى طريق طويل أمامه وسط صحراء جرداء، فتبادل رفاقه الفرسان الذين يقفون حوله نظرات التوتر والقلق، وحاولوا السيطرة على خيولهم التي أصابها الإرهاق من طول المسافة وحرارة الجو..

وفي توتر شديد قال أحد الفرسان للقائد الملثم:
- سيدي.. إننا نتبع أوامرك منذ عدة ساعات ولم نصل إلى أي شيء.. لا حياة.. لا بشر.. لا طعام.. لا مياه.. سنموت لو استمر الوضع بهذا الشكل.. حتى الخيول أصابها العطش الشديد ولم تعد قادرة على التحمل.

انعقد حاجبا القائد في شدة ونزع اللثام عن وجهه ثم دفع جواده إلى أمام الصفوف واستدار ليواجه جنوده وهو يصيح في قوة:
- لقد قلت لكم منذ البداية.. الطريق طويل ومحفوف بالمخاطر.. وأنتم تعلمون أن دوافعكم في عبور هذا الطريق لا تقل عن دوافعي.. تعلمون أن حياتكم وأمنكم وأهلكم وكل خيراتكم تكمن في وصولنا إلى النهاية.. ولقد تعاهدنا ألا يوقفنا أي شيء في سبيل تحقيق هدفنا.. اثبتوا يا رجال.. تحملوا وسينتهي كل شيء بإذن الله.

بدا الضجر على الجميع ولكنهم لم يعلقوا بحرف واحد، في حين استدار القائد يتطلع إلى قرص الشمس الذي يوشك على المغيب ويتنهد في عمق..
بعد قليل، ستغرب الشمس وسيظهر في الأفق ستة أقمار كما هو الحال في هذا الكوكب (بروتسوين) وسترتفع حرارة الجو أكثر من النهار، وستكون الرطوبة شديدة والعطش هائل وقد لا ينجو منهم شخص واحد..

هو يعلم ذلك جيدا..

وفي حزم جذب لجام الفرس وانطلق به يتابع طريقه فتبعه جنوده في تراخي وكسل، وحاول هو أن يركز ولكن ذهنه شرد على الرغم منه إلى أحداث عدة أيام مضت..

حينما قامت الحرب العالمية الثالثة على كوكب الأرض، فتسببت في تدمير كل مظاهر الحضارة والتقدم على ظهر الكوكب، وأسرع من تبقى من البشر بالفرار من التلوث والغبار الذري والسموم التي انتشرت في كل مكان، واتجهوا إلى الكوكب الذي تم اكتشافه حديثا (بروتسوين)..

ولأن هذا الكوكب متخلف، لم يحظَ يوما بأي من مظاهر التقدم والتكنولوجيا، فقد كانت مهمة أهل الأرض تبدو أشبه بالنزهة ونجحوا في تفريق سكانه واحتلال الكوكب في بساطة..
وفي كل مكان وزمان، أينما يتواجد المحتل، تظهر المقاومة والبسالة..
وخرجت هذه الجماعة من الفرسان لتحارب وتقاتل في سبيل الدفاع عن (بروتسوين)..

- سيدي (كوان).

صرخ أحد الجنود فجأة في فزع باسم قائده، فاستدار القائد بحدة نحوه ووجده يشير إلى الأفق حيث غربت الشمس وبزغت الأقمار، ويقول في فزع:
- لقد اكتشف الأرضيون موقعنا وأرسلوا فرقة مسلحة للقضاء علينا.

انعقد حاجبا (كوان) في شدة واستل سيفه وهو يصرخ في حماس:
- هجووووووم.

وارتفع الغبار ليغطي سماء (بروتسوين) في حين بدأ الأرضيون في إطلاق الرصاصات وأشعة الليزر فتساقط الفرسان صرعى واحدا بعد الآخر، وقال (كوان) في غضب:
- تبا لهذه الفتاة! إنها مقاتلة بارعة.

كان يوجه نظراته إلى فتاة رقيقة جميلة تتوسط صفوف الأرضيين وتقاتل في شموخ وصرامة لا يتناسبان مع ملامحها الملائكية وحولها جنودها الذين يدافعون عنها في بسالة..
إنها (فاتن) آخر قواد الأرض التي تجمع بين جمال الملائكة ومهارة أشجع الرجال..
ولكن صدرها يضم بين ضلوعه قلبا ينبض بالمشاعر..
فهي امرأة..
نعم، هي كذلك، مهما أجبرتها الظروف التي تواجدت فيها على التظاهر بعكس ذلك..
ومهما حاولت أن تكون رجلا قاسيا شديدا صارما، فهي في النهاية امرأة حنون تحتاج إلى الحب والعطف والحنان..
تحتاج إلى الأمان..

لا يدري (كوان) كيف دارت هذه الأفكار في رأسه في هذا التوقيت الحرج!
ولكنه عقد حاجباه في شدة وتقدم صفوف جنوده وصرخ بأعلى صوته:

- توقفوا.. لا قتال.. لا قتال..

وفي الحال، انخفضت السيوف، وتوقف الغبار، وعاد السكون يغلف كل شيء..

وفي حزم، أعاد (كوان) سيفه إلى غمده وقال للقائدة في احترام:
- هل يمكننا أن نتفاهم بدلا من القتال؟

عقدت حاجبيها في شك، وقالت في سخرية:
- قل أنك أدركت أن جنودك على وشك السقوط، وأن الهزيمة من نصيبكم لا محالة، ففضلت أن تحافظ على حياتك وحياتهم بدلا من الهلاك.

انعقد حاجباه في غضب وصاح:
- ولِمَ لا تقولين أنني فضلت أن نفكر بالعقل أولا قبل كل شيء؟

صمتت هي، فتقدم بفرسه نحوها، ونزل من عليه ووقف أمامها في اعتداد، وهو يتابع:
- أمامكِ الآن (كوان) آخر قواد (بروتسوين) يعرض على القائدة الأرضية عرضا غير قابل للرفض.

تقدمت نحوه وتطلعت إليه دون أن تتحدث، فلوح بذراعيه وقال:
- لا داعي للقتال.. نحن نعلم ما حدث في كوكبكم من دمار ونعلم أنه لا سبيل أمامكم إلا اللجوء إلينا, ولكنكم أخطأتم الوسيلة.. فلو تمكنتم من القضاء علينا فسيخرج من أصلابنا فرسان آخرون يحابون دفاعا عن (بروتسوين) ولن يهدأ لنا بال حتى نقضي عليكم، فلا تحاولوا أن تتجاهلوا هذه الحقيقة.

وصمت لحظات ليرى تأثير كلماته على وجهها ثم تابع:
- كان من الأفضل أن تطلبوا منا أن تشاركونا حياتنا بعد أن تشرحوا لنا ظروفكم.. وكنا نحن بكرم أخلاقنا وسماحتنا سنحملكم فوق رؤوسنا بل سنحميكم وندافع عنكم.. ولكنكم اغتررتم بقوتكم، فيجب أن تعلمي أيتها القائدة أنه لا يوجد شبر واحد في (بروتسوين) إلا وسيقاتلكم حتى الموت ما لم تعدلوا من نواياكم.

ورفع يده إلى أعلى وهو يتابع في قوة:
- أنا أعرض عليكم أن تتحد قوتنا، وأن تنضم صفوفنا، وأن يعيش أهل الأرض وأهل (بروتسوين) في سلام وأمان على أرض واحدة، فكل منا في الواقع يحتاج إلى الآخر، فلا أظن أنكم لا تحبون السلام، ولا أظن أننا سنتوقف حتى نقضي على المحتل، لذا فالحل الأسلم هو أن نتحد.

تألقت عيناها، وابتسمت ابتسامة واسعة، فصمت هو تماما وقد سلب عقله سحر ابتسامتها وبساطة تعبيراتها وقوة شخصيتها، ثم انخفض صوته وقال في لهجة من يطلب حلما بعيد المنال:
- أتتزوجينني؟؟

رفعت حاجبيها بدهشة حقيقية هذه المرة، وارتبك جنودها الواقفون بالقرب منها، في حين نظرت هي بعيدا نحو الأقمار، وساد الصمت تماما..

صمت يحمل معنى واحدا..

السلام..

وإلى الأبد..

4 التعليقات:

يااااه يادكتور , جميلة بطريقة , حتي رائعة قليلة في وصفها

النهاية تفوق الوصف

بعد الحروب والعنف

تنتهي بهذا الشكل

دام لنا فكرك الرائع دكتور وفي تقدم دائم باذن الله

 

الله .. الله ,,

جد ما شاء الله على حضرتك يا دكتور ..

فكر مبدع وخيال يفوق الوصف ..

أدام الله عليك هذا الفكر وهذا الخيال ..

خالص احترامي وتقديري ؛؛

 

كارمن: يعجبني جدا تذوقك وتلخيصك لخواطري وقصصي

أشرقت القصة بمرورك العطر

،،

 

جزاكم الله خيرا يا باشمهندسة..

أضاءت قصتي المتواضعة بمرورك الكريم

،،

 

إرسال تعليق