مملكة الإبداع

إنها مملكة أهديها إلى أعز الناس، وأحب الناس، وأغلى الناس، فهي من أرشدتني إلى إنشائها وإليها أهدي كل الكلمات..

تكملة الفصل الثالث 3

ساد الصمت والسكون في منزل صغير منعزل على أطراف تل أبيب، حيث جلس الملازم (جلال عدنان) يراجع بعض الأوراق وعيناه تتألقان في ظفر وسعادة، في حين جلس (دافيد) أمامه على مقعد صغير وقد قيد (جلال) معصميه ووضعهما خلف ظهره، وكمم فمه..
وأنهى (جلال) مراجعة الأوراق للمرة الثالثة على الأقل ثم لوح بها وهو يقول لـ (دافيد) في شماتة:
- هل تعلم ما هذه الأوراق يا (دافيد)؟
ارتسم التساؤل على وجه هذا الأخير، فتابع (جلال):
- الورقة الأولى عبارة عن تقرير من الموساد الإسرائيلي، قام المدير بنفسه بتوزيعه على رجاله، ويؤكد فيه أنك قد أصبت بإصابات بالغة في صراعك مع المخابرات المصرية التي حاولت الحصول على الخريطة، وأنك أصبحت في عداد المفقودين، وستعتبرك الإدارة قد فارقت الحياة إلى أن يثبت عكس ذلك، وتؤكد أن محاولة المخابرات المصرية قد باءت بالفشل أيضا بناء على تقرير السي آي إيه.. بل والأجمل أنه قد تم تعيين رجل آخر في منصبك يا (دافيد) ولم يعد لك وجود في هذه الحياة إطلاقا.
اتسعت عينا (دافيد) في هلع في حين التقط (جلال) الورقة الثانية وهو يقول بنفس الشماتة:
- وهذا هو تقرير السي آي إيه كما كتبته (أنجيل آدمز) تماما.. والذي تؤكد فيه أن نسبة بقائك على قيد الحياة بعد إصابتك برصاصة مباشرة في صدرك لا تتجاوز خمسة في المائة، وأن المقدم (عمر) قد أصيب في شدة ولا يمكنه العودة إلى عمله قبل عدة شهور على أقل تقدير.. والجزء الأهم من وجهة نظري هو تأكيدها أن الخريطة لم يحصل عليها رجال المخابرات المصرية ولو لحظة واحدة وأنها لا تزال غير معروفة إلا للموساد والسي آي إيه فقط.
ثم طوى الأوراق ونظر إلى عيني (دافيد) مباشرة وهو يتابع:
- هل تعلم أن هذا يعني نجاحنا التام يا رجل الموساد المفقود؟ وهل تعلم أيضا أن هناك نقطة ضعف واحدة في خطتنا قد تكشف أمرنا كله وتقلب المائدة فوق رؤوسنا؟!
تصبب العرق من وجه (دافيد) حينما أدرك ما يقصده (جلال) وصدرت عنه همهمة مكتومة، فهمها (جلال) على الفور فابتسم وأجاب:
- ليس هناك حل آخر للأسف يا (دافيد).. فإما أن نقتلك وإما أن ينتهي أمرنا كله.. وأنت تعلم جيدا أننا لن نسمح بهذا.
أطل الرجاء والتوسل من عيني (دافيد) الذي كاد يبكي بسبب هذه الجملة الأخيرة، فابتسم (جلال) في مكر وهو يتابع في بطء:
- ربما كان هناك حل ثالث.
تحول الرجاء والتوسل إلى لهفة، فأسرع (جلال) ينتزع الكمامة من فوق فم (دافيد)، ولم يكد يفعل حتى صرخ هذا الأخير:
- أنا مستعد لكل ما تطلبونه.. كل ما تطلبونه.
ربت (جلال) على كتفيه وقال في بساطة:
- أنت رجل عاقل يا (دافيد).. سأعود على الفور.
وأسرع (جلال) يغادر الحجرة تاركا (دافيد) يكاد يبكي من هول ما سمعه..
هل نجح العرب في خداع إسرائيل بهذه البساطة؟
هل حصلت مصر على (إس جى 22) من قلب الموساد؟؟
هل فشلت ألسي آي إيه في كشف الأمر؟؟؟
ولكن لا..
لم ينتهي الأمر بعد بعد..
أنت وحدك يا (دافيد) يمكنك قلب الأمور كلها وكشف هذه اللعبة..
أنت وحدك يا (دافيد) يمكنك استعادة منصبك والحصول على مكافأة كبيرة وربما ترقية استثنائية أيضا..
فقط إذا نجحت في الفرار وتحذير رؤساءك..
وفي حنق غمغم (دافيد):
- تبا لهذا الرجل! لقد جردني من كل ما أحمل، حتى هاتفي المحمول.
وفي مهارة حقيقية، بدأت أصابعه تعمل لفك قيود معصميه، وهو يقول لنفسه في خفوت:
- هيا يا (دافيد).. استرجع كل مهاراتك.. لا تجعل العرب يفعلونها مرة أخرى بعد أن أذلوا كبرياءنا في أكتوبر!
وطوال عشر دقائق كاملة لم يتوقف (دافيد) عن المحاولة..
ونجح..
وفي شراسة، تألقت عيناه وهو يحل القيود عن معصميه ثم التقط خنجرا صغيرا من مخبأ خفي في حذائه، وعاد يضع معصميه خلف ظهره متظاهرا بأن شيئا لم يحدث، وانتظر عودة (جلال) إليه في تحفز..
وبعد دقيقة واحدة، عاد هذا الأخير إلى المكان واتجه نحو (دافيد) مباشرة وهو يقول في صرامة:
- هيا يا (دافيد).. سأمنحك فرصة أخيرة.
ولكن (دافيد) قفز واقفا فجأة وطعن بطن (جلال) بخنجره وهو يقول في شراسة:
- سأمنحها أنا لك يا رجل.. سأمنحك الفرصة في مغادرة هذه الحياة.
وغاص الخنجر حتى مقبضه..
واتسعت عينا (جلال) في ذهول وألم رهيب..
والعجيب أنه لم يفكر وقتها في أي شيء إلا فكرة واحدة..
(دافيد) فعلها..
سيفر إذن، وسيحذر الموساد، وستفشل العملية كلها..
ولو حدث ذلك، لن يستطيع أحد أن يوقف الإسرائيليين عن هدم الأقصى!
الأقصى!!
ولم تكد هذه الكلمة الأخيرة تتردد في ذهنه حتى نسى كل آلامه وأوجاعه..
كان (دافيد) يتصور أن (جلال) سيسقط جثة هامدة على الفور، لذا فقد تملكه الفزع والرعب حينما نظر إليه هذا الأخير في غضب رهيب، وشعر أن نظرات (جلال) تخترق جسده كالرصاصات، فترك خنجره في بطن هذا الأخير وانطلق يعدو إلى خارج المكان..
وفي إرادة فولاذية جبارة، لم يحاول (جلال) أن ينتزع الخنجر من أحشائه، وإنما دار على عقبيه وانطلق يعدو خلف (دافيد)..
وارتجف قلب (دافيد) في رعب رهيب وكأنما يطارده الشيطان نفسه..
كيف يمكن لأي إنسان أن يفعل هذا؟؟!!
إن الدماء تنزف منه بلا توقف، والخنجر مزق أعضاءه بكل تأكيد والمفترض أن يسقط جثة هامدة دون أن يستطيع أن ينطق حرفا واحدا !!
فكيف يتحرك ويعدو إذن؟؟
وبكل قوته، قفز (دافيد) داخل سيارته بمجرد أن غادر المكان وهو يصرخ:
- لن تلحق بي أبدا.
فوجئ بـ (جلال) خلفه مباشرة، فضغط دواسة الوقود في سرعة، لكن هذا الأخير قفز بدوره داخل السيارة في نفس اللحظة التي انطلق فيها (دافيد)..
وفي رعب حقيقي، حاول (دافيد) أن يدفع (جلال) خارج السيارة وهو يصرخ:
- ابتعد عني.
لكن (جلال) قبض على عنق (دافيد) بكلتا يديه وكأنما لم يعد له أمل في الحياة إلا القضاء على خصمه، فحاول (دافيد) التركيز في القيادة وهو يصيح:
- أيها الغبي! ماذا تفعل؟
ولكن (جلال) لم يفكر في أي شيء إلا شيئا واحدا..
لن يصل هذا الوغد إلى الموساد..
لن يفعل، طالما بقي داخل صدره نفسا يتردد أو قلبا ينبض..
وبكل قوته، ضغط على عنق (دافيد) ليمنعه من التنفس، فغمغم هذا الأخير بصوت متحشرج:
- لن تهزمني أبدا.
وفجأة، انتزع الخنجر من بطن (جلال) في قسوة، وغرزه في صدره مباشرة..
وفي هذه المرة كانت الآلام لا تُطاق..
وتراخت يدا (جلال) عن عنق خصمه، وخبا نور الحياة في عينيه، ثم سقط على أرضية السيارة..
وأطلق (دافيد) ضحكة ساخرة وهو يعود للسيطرة على القيادة، ويقول في شماتة:
- بلغ تحياتي لكل العرب الأغبياء في الجحيم أيها السوري.
لم يكن يفصل (دافيد) عن مبنى الموساد إلا جسر صغير، وتحته مباشرة منطقة جبلية وعرة، وبدأ (دافيد) يقول لنفسه في ظفر:
- هيا يا (دافيد).. هذا هو جسرك إلى النصر.. جسرك إلى المال.. جسرك إلى الحياة.
وانطلقت السيارة عبر الجسر حتى وصلت إلى منتصفه تقريبا..
ولكن فجأة، نهض (جلال)..
لا توجد قاعدة علمية يمكنها تفسير هذا الموقف، ولا تتحكم فيه إلا الإرادة الفولاذية الجبارة التي يمتلكها هذا الأخير، وتوفيق الله سبحانه وتعالى..
ولكن (دافيد) لم يكن يفهم إلا منطق المال، لذا فقد اتسعت عيناه في ذهول ورعب رهيب حينما رأى (جلال) ينهض مرة أخرى وصرخ:
- لا.. لا.. أنت لست بشريا.. لست بشريا.
وهنا، قفز (جلال) بآخر ما يمتلكه من طاقة وأدار عجلة القيادة في عنف وهو يصرخ:
- لبيك يا أقصى..
وانحرفت السيارة بمنتهى العنف لتحطم حاجز الجسر وتهوي في الهواء من ارتفاع عشرة أمتار نحو الجبال مباشرة..
ودوى الانفجار..

****

2 التعليقات:

السلام عليكم ورحمة الله وبركاته


غابت تعليقاتي عن صفحتك فترة ليست بالقصيرة , ولكن ثق تمام ان تلك خسارة لي انا , اذا فلتعذرني عن تأخر التعليق

في هذا الجزء رأيت قوة الارادة العربية متجسدة في صورة ذالك الضابط , حذرتني قبل قرائتها انه سيكون جزءا مؤلما , هو كذلك بالفعل ولكن فرح الانتصار ونشوة الحماس اعطو الاحساس مذاقا خاصا , لذا فقد غطو اي مشاعر اخري من التسلل الي الاعماق

حقيقا ما عاد عندي كلمات توازي براعة قلمك وابداعك

خالص احترامي وتقديري

 

وعليكم السلام ورحمة الله وبركاته

ربما اعتبرتي تأخر تعليقك خسارة لكِ، ولكنها إذا ما قورنت بخسارتي تصبح لا شيء

ولكنني كنت أهتم فقط بأن تقرأي الأجزاء أولا بأول ثم يأتي التعليق بعد ذلك حينما تأتي اللحظة المناسبة

وها هي قد أتت

أما عن شعورك، فقد كنت أتصور أن بشاعة المشهد ووفاة جلال بهذه الصورة سيجعل الفرحة التي صاحبت الختام تتلاشى أو تختفي تدريجيا، لكن هذا -والحمد لله- لم يحدث..

وفوق هذه الأطلال المحترقة، والدماء المسفوكة، والحرمات المنتهكة، والأجساد المنهكة، تنهض الكرامة والعزة من جديد..

كالعادة، أشكرك على هذا التعليق المميز.. وهذا ليس بغريب عليكِ

جزاكِ الله خيرا..

 

إرسال تعليق