مملكة الإبداع

إنها مملكة أهديها إلى أعز الناس، وأحب الناس، وأغلى الناس، فهي من أرشدتني إلى إنشائها وإليها أهدي كل الكلمات..

الفصل الثالث

الفصـــــل الثالث
اعتصر الألم قلب (عمر) واشتعل الغضب في أعماقه حينما قيد رجال الموساد معصميه ودفعوه داخل سيارة صغيرة، ثم جلس رجل عن يمينه وآخر عن يساره، في حين ظهرت سيارة أخرى في الأمام، وثالثة في الخلف..
جلس (إفرام) في السيارة الأمامية بين رجاله وهو يبتسم في ارتياح وظفر، ولا يتوقف لحظة واحدة عن النظر حوله..
وفي السيارة الوسطى، شرد ذهن (عمر) تماما وهو يفكر في الوضع الحالي ويقلبه من كل جهة لعله يهتدي إلى المخرج..
هل انتهى الأمر؟؟
هل ستنجح إسرائيل في تنفيذ خطتها ونسف المسجد الأقصى؟!
هل فشلت مصر في إيقاف هذه المؤامرة القذرة؟؟
ولكن مهلا.. لو فشلت مصر فليست هي فقط من يهمها أمر الأقصى..
كل المسلمين والعرب يسعون إلى الهدف نفسه، ولو في السر..
كل مسلم على وجه الأرض متضامن مع الأقصى ولو بالدعاء..
أثارته هذه الفكرة، فرفع عينيه إلى السماء وقال في خشوع:
- ساعدني يا رب.
وكأنما اخترق هذا الدعاء السماوات السبع في لحظة واحدة، فجاءت الاستجابة بأسرع مما يتوقع..
ففي أقل من دقيقة، ظهرت فجأة سيارة كبيرة من طريق جانبي واندفعت تقطع الطريق أمام سيارات الموساد مباشرة، فصرخ سائق السيارة الأمامية التي يوجد (إفرام) بداخلها وهو ينحرف بعيدا في عنف:
- ماذا يفعل هذا المجنون؟!
ومع انحرافه المباغت، ارتطمت سيارته برصيف الشارع ودارت حول نفسها ثم انقلبت رأسا على عقب، في حين نجح سائق السيارة الوسطى التي يقبع (عمر) داخلها في السيطرة عليها والتوقف في آخر لحظة، لكن سائق السيارة الخلفية فشل في ذلك، فارتطمت سيارته بحقيبة السيارة الوسطى وانقلبت في عنف..
ولم ينتظر (عمر) لحظة واحدة..
فقبل أن يحدث أي ارتطام، انحنى إلى اليسار وركل وجه الرجل الذي يجلس عن يمينه بقدمه اليمنى ثم ركل مدفعه الرشاش بقدمه اليسرى..
وطار المدفع ليحطم زجاج السيارة ويهوي خارجها في نفس اللحظة التي حدث فيها الارتطام، لكن (عمر) ضم قبضتيه وهوى بهما على وجه الرجل الآخر..
وبعد لحظات، ظهر وجه رجل ذو ملامح عربية يمد إليه يده عبر النافذة المحطمة ويصرخ:
- هيا يا رجل.. اعطني يدك.
قفز (عمر) يلتقط يد الرجل بيديه المقيدتَيْن، ووثب خارج السيارة ثم انطلق يعدو بعيدا عن المكان مع منقذه..
وخلفهما، انفجرت السيارات الثلاث بمنتهى العنف..
وبسرعة، حل الرجل الذي أنقذ (عمر) القيود عن معصمي هذا الأخير، فهتف في لهفة:
- من أنت يا رجل؟ هل استجاب الله لدعائي وأنزل ملائكة تؤازرني؟
ناوله الرجل مسدسا كبيرا وهو يقول في صرامة:
- خذ هذا أولا.. يجب أن نبحث عن مخبأ.
ظل (عمر) على ذهوله وهو يتحرك مع الرجل، هاتفا:
- ولكنني مازلت أحمل وجه هذا الوغد (إفرام)!! كيف علمت أنني..
قاطعه الرجل في حزم:
- اسمك (عمر عبد اللطيف).. مقدم بالمخابرات العامة المصرية.. كيف يمكن لمثلي أن لا يعرفك؟؟
ردد (عمر):
- مثلك؟
أومأ الرجل برأسه وأجاب:
- نعم.. أنا ملازم أول (جلال عدنان)، المخابرات السورية.
اتسعت عينا (عمر) في دهشة وهتف:
- يا إلهي! لقد استجاب الله دعائي إذن.
وقبل أن يعلق (جلال)، انطلقت فجأة رصاصة من مكان ما، استقرت في ساعد (عمر) وألقته أرضا وهو يتأوه في ألم، فحاول (جلال) أن يبحث عن مصدر الرصاصة، لكن رصاصة ثانية صائبة أطارت مسدسه من بين أصابعه، وبرز أمامهما رجل طويل، شرس الملامح يبتسم في قسوة ويصوب إليهما مسدسه الذي يتصاعد من فوهته الدخان..
كان (دافيد)..
مساعد مدير الموساد..

****

احمر وجه (جلال) كالطماطم من شدة الغضب، واشتعلت عيناه كجمرتين من النار وهو يرمق (دافيد) بنظرة مخيفة دون أن يخيفه المسدس الذي يصوبه إليه، لكن (دافيد) بادله النظرة بمثلها وهو يقول في قسوة:
- أغبياء! دائما أغبياء وستظلون أغبياء!
وضحك في سخرية وهو يتابع:
- تأتون إلى مدينتنا بوجوه مكشوفة وتلقون بأنفسكم تحت رحمتنا ثم تظنون أنكم ستتغلبون علينا ! هل هذا غرور أم حماقة؟
أجابه (عمر) وهو يحاول إيقاف نزيف الدماء المستمر من ساعده:
- بل هو غطرستك السخيفة يا هذا ! لِمَ لا تطلق النار وتنهي هذا الموقف؟!
أطلق (دافيد) ضحكة عالية وهو يجيب:
- وتحرمني من الاستمتاع بهذه اللحظة؟؟ لا أظنك شديد القسوة إلى هذا الحد.
أجابه (جلال) في برود:
- بل أنت الشديد الغباء يا (دافيد).. ستندم على إضاعة هذا الوقت.
هتف (دافيد) في تحدي:
- أتراهن؟؟
ولكن رصاصة صائبة انطلقت فجأة من خلف (دافيد) لتصيب مسدس هذا الأخير وتلقي به بعيدا، فاستدار (دافيد) إلى مصدرها في غضب ووجد العقيد (كمال) يصوب إليه مسدسه وهو يبتسم في سخرية ويقول:
- أراهن.
هز (جلال) رأسه نفيا في أسف مسرحي وهو يقول:
- ألم أقل لك أيها الخرتيت؟؟
احتقن وجه (دافيد) غضبا، في حين مزق (جلال) قميصه وأسرع يحيط به ساعد (عمر) المصاب ليمنع الدماء، ثم ساعده على النهوض، في حين قال (كمال) بنفس السخرية:
- هل تأخرت عليكم؟ يؤسفني أن الطائرات ليست هي الوسيلة الوحيدة التي يمكن أن تنقلنا إلى إسرائيل هذه الأيام.. هل أقتله أم أعذبه كما كان يفعل بأسراه؟
رمق (عمر) (دافيد) بنظرة مخيفة وأجاب:
- إنني أحتفظ له بمصير أروع.. مصير يليق به.
وارتجف قلب (دافيد) على الرغم منه..

****

تكملة الفصل الثاني 3

(كانت لعبة متقنة منذ البداية)..
قال مدير المخابرات العامة المصرية هذه العبارة في حزم وهو يواجه رجاله في ذلك الاجتماع المغلق الذي عقده بشكل طارئ لبحث عملية (تل أبيب)، ثم تابع في قوة:
- (جون إدوارد) أصيب بنزلة برد قبل يوم واحد من سفره إلى إسرائيل، وهذه الحقيقة خدمتنا في الواقع، لأن (عمر) لا يجيد تقليد الأصوات، وفي نفس الوقت كان هو أنسب رجل لقيادة هذه العملية، لذا فبمجرد أن انطلق (جون) من أمريكا إلى إسرائيل حتى كنا بانتظاره في مطار (باريس) الذي ستهبط فيه طائرته مؤقتا أثناء الرحلة، وهناك اختفى (جون) وحل محله (عمر) الذي أجاد تقمص شخصيته في الواقع.
ثم نهض وأشار إلى خريطة كبيرة لمدينة (تل أبيب) معروضة على شاشة ضخمة أمام الجميع، وتابع وهو يشير إليها:
- المعلومات التي أرسلها (عمر) شديدة الخطورة، فمنزل الجنرال محاط بحراسة مشددة، ولا أظن أن المساعدات التي يتلقاها هناك من (فارس) و(جهاد) ستكون كافية.
غمغم أحد رجاله:
- خاصة أن ابن (فارس) مات رضيعا بعد دقائق من ولادته، بعد أن قتله جندي إسرائيلي بالرصاص، وبعده ماتت أمه حزنا عليه، وربما ماتت بسبب الدم الذي فقدته أثناء الولادة التي تمت بشكل بشع للغاية.
أكمل المدير:
- ولكل هذه الأسباب، أظن أن مهمة (عمر) عسيرة للغاية.
وساد الصمت بعد هذه العبارة..
تماما..

****

اتجه (إفرام) نحو البوابة الخارجية لمنزله التي يقف على حراستها أربعة رجال، وأبرز بطاقته المغناطيسية الخاصة وهو يسعل في قوة ويقول بصوت مبحوح:
- أسرع يا رجل.. إنني مريض.
لم يلق أي من الرجال الأربعة نظرة واحدة على البطاقة بل اكتفوا بإفساح الطرق أمام (عمر) المتنكر في هيئة (إفرام) فأسرع الأخير نحو باب المنزل، ودلف إليه وهو يتنهد في عمق و..
وفجأة، أضاءت كل أنوار المنزل في لحظة واحدة، وتجمدت عينا (عمر) على (إفرام إليعاذر) الحقيقي وهو يقف في نهاية المنزل وحوله دستة من رجاله، وجميعهم يصوبون مدافعهم الرشاشة إلى صدر (عمر)، في حين قال (إفرام) في شماتة وزهو:
- ألن تعترف لي بالتفوق والمهارة يا (جون)؟
ثم ابتسم في خبث وهو يتابع:
- أم تحب أن أناديك باسمك الحقيقي أيها المقدم؟
وهنا، انعقد حاجبا (عمر) وانفجر في أعماقه بركان من الغضب..
فهذا لا يعني فقط أن حياته قد انتهت..
ولكن يعني أن مهمته قد فشلت..
وأن (إس جى 22) لا تزال في قبضة الإسرائيليين..
بل والأدهى، أن الأقصى سيظل مهددا بالخطر !!
وأطلق (إفرام) ضحكة ساخرة عالية وهو يتابع في تلذذ:
- كانت خطتكم رائعة بالفعل يا رجال المخابرات المصرية.. أعترف لكم بذلك.. ولكن ماذا تساوي خطتكم أمام عبقرية الموساد؟؟
لم يعلق (عمر) في حين تابع (إفرام):
- آه! يؤسفني إبلاغك أننا اضطررنا إلى قتل الرجال الأربعة وتعذيب الفتاتين.. لا أعلم لماذا أصر الرجال على عدم التفوه بحرف واحد؟ حتى بعد أن شويناهم أحياء ظلوا على عنادهم! ولكن لحظك السيء، نحن لا نجيد أساليب التعذيب فقط مع النساء.. هناك أساليب أكثر فاعلية معهن.
وقهقه ضاحكا في شدة، وانفجر غضب (عمر) حينما أدرك معنى هذه الجملة الأخيرة، وصرخ:
- أيها القذر الحقير.. سأقتلك يا (إفرام).. أقسم أنني سأقتلك.
عبس وجه (إفرام) فجأة وأشار إلى رجاله وهو يقول في شراسة:
- اخرس.
وفي لحظات أحاط رجال (إفرام) بـ (عمر) وحملوه إلى سيارة كبيرة، انطلقت مباشرة إلى مبنى الموساد الإسرائيلي

****

(المهمة فشلت)..
كانت هذه العبارة تحمل كل ألم ومرارة الدنيا وهي تخرج من بين شفتي مساعد مدير المخابرات المصرية وهو يخبر بها المدير، فامتقع وجه هذا الأخير وردد:
- فشلت؟!
أومأ المساعد برأسه وغمغم في أسى:
- نعم.. لقد قُتِل (فارس) ورجاله وتعرضت (فاتن) إلى أساليب إسرائيل القذرة من اغتصاب وتعذيب بعد أن ألقوا القبض عليهم، وقادهم هذا إلى (عمر) الذي سقط في أيديهم بدوره، وتم ترحيله إلى الموساد حيث يتم استجوابه.
تمتم المدير في ألم:
- يا إلهي! يا إلهي!
ثم ساد الصمت..
صمت يحمل طعم الهزيمة..
وكل مرارة الدنيا..

****

تكملة الفصل الثاني 2

هبط (جون إدوارد) على سلالم فندق (هيلتون تل أبيب) في سرعة ورشاقة وهو يطلق من بين شفتيه لحنا أمريكيا شهيرا، ثم توقف أمام موظف الاستقبال وقال له مع ابتسامة كبيرة:
- صباح الخير.. سأخرج للتنزه قليلا.. إذا سأل عني أي شخص فقط أخبره أنني لست هنا، وإن كان يحمل رسالة فليتركها معك.
ثم مد يده في جيبه وأخرج شيكل إسرائيلي ووضعه أمامه وهو يقول في خبث:
- ولك مائة مثله عندما أعود.
تألقت عينا الموظف فتابع (جون) وهو يلوح بذراعيه مودعا:
- الآن إلى اللقاء.. لا تنسى أن تخبر الجميع أنني في نزهة.
وقفز داخل سيارته ثم انطلق بها في سرعة وهو يطلق ذلك اللحن الأمريكي، ولم يكد يبتعد حتى ظهرت سيارة كبيرة خلفه يقودها خمسة من الموساد الإسرائيلي، قال قائدهم في صرامة:
- انطلق خلفه يا (خزرو).. لا تدعه يغيب عن بصرك قط.
لاحظ (جون) السيارة التي تتبعه من بعيد، لكنه تظاهر بالهدوء وهو يتخذ طريقا طويلا يقود إلى أطراف المدينة، فغمغم أحد رجال الموساد:
- أين يذهب هذا الرجل بالظبط؟
قال القائد:
- ربما يتجه إلى الساحل، فالمفترض أن مجرد سائح.
رفع (جون) فجأة من سرعة سيارته وانطلق بها كالصاروخ عبر طرق فرعية فصاح قائد رجال الموساد:
- الحقوا به.. زد من سرعتك يا (خزرو).
انحرف الإسرائيليون في حدة خلف (جون) لكنهم وجدوا سيارته متوقفة على جانب الطريق، فأسرعوا يوقفون سيارتهم خلفها من بعيد وقال قائدهم في خفوت كأنما يتحدث مع نفسه:
- هنا؟ هذا الشارع حدثت به عدة عمليات انتحارية من قبل.. ترى هل يكون هذا الرجل على علاقة بالفلسطينيين؟؟
أثارته الفكرة في شدة فاستل مسدسه وأشار لرجاله فقفز الجميع خارج السيارة واتجهوا نحو سيارة (جون) في حذر وبطء إلا أن المكان كان صامتا تماما، فاتجه القائد نحو مقدمة السيارة ثم اتسعت عيناه في دهشة وهو يهتف:
- هذا الخدش لم ألاحظه من قبل!
انحنى أحد رجاله يفحص الإطارات والمحرك ثم ارتد فجأة كالمصعوق وهو يصرخ:
- بحق إسرائيل!! المحرك بارد تماما.. هذه ليست سيارة (جون).
اتسعت عينا القائد في هلع وفهم الأمر فجأة..
لقد خدعهم (جون) ولم يعد من الممكن العثور عليه مرة أخرى..
أبدا..

****

ساد الهدوء في منزل ريفي صغير يقع على مشارف تل أبيب قرب الساحل المطل على البحر المتوسط، وانهمك أربعة رجال وفتاتان داخله في مناقشة طويلة وهم يفحصون خريطة أمامهم لدولة إسرائيل..
وارتفعت طرقات هادئة على الباب فنهض أحد الرجال واستل مسدسا من حزامه وهو يسأل بالعبرية في حذر:
- من؟
أجاب (جون) من خلف الباب بالعربية:
- العصافير لا تغرد في المساء.
ابتسم الرجل عندما سمع كلمة السر، ثم أخفى مسدسه وفتح الباب وهو يقول:
- والعصفور الحبيس لا يغرد أبدا.. ادخل بسرعة.
قفز (جون) إلى الداخل فأغلق الرجل الباب خلفه، واستدار إليه واحتضنه في قوة وهو يهتف من أعماق قلبه:
- مرحبا بك يا سيادة المقدم.. إننا ننتظرك منذ أربعة دقائق.
صافح (جون) - الذي لم يكن سوى المقدم (عمر) - باقي الرجال الثلاثة وأومأ برأسه للفتاتين دون أن يصافحهما بيده، ثم جلس على رأس المائدة المفرود عليها الخريطة، وقال في سرعة:
- كنت أفر من مطاردة سخيفة.. المهم، ما هي آخر المعلومات؟
جلس الرجل أمامه مباشرة وأشار إلى نقطة واضحة في قلب تل أبيب وأجاب:
- هناك حراسة مشددة على منزل (إفرام).. من الواضح أن (إس جى 22) توجد هناك بالفعل.. المنزل نفسه صغير، تواجهه حديقة واسعة، وعن شرقه ساحة صغيرة يوقف فيها سيارته عندما يعود إليه، يحيط بالمنزل سور سميك يتجاوز ارتفاعه الأمتار الثلاثة ويسري خلاله تيار كهربي قوي.. توجد عشر كاميرات مراقبة في كل ركن، ويتناوب على حراسة المكان دستتان من الرجال..
عقد (عمر) حاجبيه في شدة، ثم درس موقع المنزل على الخريطة في حرص دون أن يعلق، وتساءل في عمق:
- ترى لو كنتم مكان إسرائيل، هل ستختاروا موقعا كهذا؟
لم يرد أحد، فنهض (عمر) وسار في الحجرة وهو يتابع:
- لم لا؟ طالما أنه محاط بكل هذه الحراسة.. إذن، يتبقى السؤال الأهم: هل يعلم أحد - باستثناء (إفرام) - بوجود (إس جى 22) في المنزل؟ دعوني أجيب هذا السؤال.. كلا بالطبع فلا يجب أن يعلم أحد بأمرها أصلا إلا عدد محدود من رجال الدولة.
ثم التفت فجأة إلى الرجال وسألهم في اهتمام:
- هل هناك مواعيد ثابتة لخروج الجنرال وعودته إلى منزله؟
أومأ أحدهم برأسه وأجابه:
- نعم.. يخرج في العاشرة صباحا تماما من منزله، ويزاول بعض تمارين الجري حول حديقة منزله، ثم يتناول إفطاره ويخرج، ولا يعود إلا في السادسة مساء.
صمت (عمر) تماما وهو يقلب الأمر من جميع جوانبه، وطال صمته هذه المرة لكن أحدا لم يتحدث، حتى تألقت عيناه في شدة وضرب سطح المائدة بقبضته وهو يقول في حماس:
- وجدتها.
وكان يعني ما يقول..

****

طرق (دافيد) باب حجرة مدير الموساد في حماس، ثم قفز إلى الداخل، فرفع المدير رأسه إليه وهو يقول:
- هات ما عندك.
ابتسم (دافيد) وأجاب في ثقة:
- هذا الرجل مثير للريبة يا سيدي.. لقد راقبناه كما أمرتنا عبر الأقمار الصناعية التي كشفت حركة سيارته لحظة بلحظة، وأمرنا بعض رجالنا بمطاردته لضمان بقائه تحت أعيننا.. ورغم أنه ناورهم في مهارة، لكن القمر الصناعي رصد حركته في دقة، فقد اتجه إلى منزل قرب الساحل وبقى داخله قرابة الساعة، ثم خرج منه وعاد مباشرة إلى الفندق.
شبك المدير أصابعه دون أن يعلق، فتابع (دافيد):
- هذا المنزل يخص ستة أشقاء، منهم امرأتين، وجميعهم من اليهود، ويقيمون في تل أبيب منذ عام واحد، لكنهم لا يستقرون طويلا.
رد المدير في سرعة وصرامة:
- أريدهم هنا.. حالا.
وتألقت عينا (دافيد) في شراسة..

****

انطلقت سيارة الجنرال (إفرام) تشق شوارع تل أبيب في سرعة، وقد أحاط بهذا الأخير داخلها خمسة حراس، بالإضافة إلى السائق، وعلى الرغم من ذلك تلفت (إفرام) حوله في حذر وحرص طوال الوقت..
وفجأة، ظهر رجل عجوز متغضن الوجه، ينحني ظهره على نحو بشع ويرتكز بكلتا يديه على عصا قصيرة، وهو يعبر الطريق أمام السيارة مباشرة..
وفي سخط، ضغط السائق فرامل سيارته ليمنع نفسه من الارتطام بالرجل ثم صاح في غضب:
- أيها العجوز الحقير! كدت أن أقتلك.. ابتعد عن هنا.
امتقع وجه العجوز واتجه إلى نافذة السيارة وهو يصيح في ضعف:
- أهكذا تعامل عجوزا مثلي؟ أهكذا تعامل عضوا في الكنيست ومجلس الشيوخ؟!
ضاقت حدقتا (إفرام) في شدة وأصابه التوتر بسبب هذه الكلمة الأخيرة، وقال للعجوز مع ابتسامة مرتبكة:
- عذرا يا.. أيا كان اسمك.. لكننا لم نقصد إغضابك.
اتسعت عينا العجوز وهو يتطلع إليه مباشرة ويهتف:
- (إفرام إليعاذر)؟! يا إلهي.. لقد تغيرت ملامحك كثيرا يا رجل.. دعني أصافحك، فقد افتقدتك في شدة.
مد العجوز يده عبر النافذة إلى (إفرام) لكنه شهق فجأة وسعل في شدة عدة مرات واحتقن وجهه، فقفز هذا الأخير من سيارته وحاول أن يساعده على التماسك وهو يهتف برجاله:
- الرجل يختنق.. إنه يحتاج إلى الإسعاف.
شعر رجاله بالدهشة وهم يرون قائدهم الذي كان يذبح الأطفال والنساء والشيوخ بلا رحمة وهو يتحدث بكل هذه اللهفة والعطف في حق الرجل، فقط عندما علم أنه عضو في الكنيست، لكن العجوز استند على (إفرام) بكلتا يديه وغمغم في تهالك:
- لا عليك يا ولدي.. إنني بخير.
ثم عاد يلتقط عصاه وهو يلوح بيده ويقول للسائق:
- في المرة القادمة عليك بالأدب في معاملة الشيوخ.
كتم الجميع ضحكاتهم، في حين احمر وجه السائق، وعاد (إفرام) إلى سيارته وهو يهتف:
- هيا.. فلننطلق.
وبمجرد أن ابتعدت السيارة، اعتدلت قامة العجوز وارتسمت على شفتيه ابتسامة ساخرة وهو ينظر إلى البطاقة المغناطيسية الخاصة بـ (إفرام)، والتي سرقها منه حينما استند عليه، ثم دسها في جيبه بسرعة واختفى عن الأنظار..

****

تكملة الفصل الثاني

توقفت الطائرة القادمة من الولايات المتحدة الأمريكية في مطار (تل أبيب)، وهبط منها رجل طويل القامة عريض المنكبين، مفتول العضلات، يرتدي تي شيرت مزركش ونظارة شمس صغيرة، ويبدو شديد الوسامة والبساطة وهو يتحدث مع رواد الطائرة الذين يهبطون منها بدورهم..
وتقدم الرجل في خفة إلى منطقة الجوازات وناول جوازه إلى الموظف المسئول وهو يمنحه ابتسامة واسعة، فبادله الموظف ابتسامته بمثلها، وفحص جواز سفره بعينيه، ثم ناوله إياه وهو يقول:
- مستر (جون إدوارد).. هذه ليست المرة الأولى التي تزور فيها (تل أبيب).
هز (جون) كتفيه في بساطة والتقط الجواز مجيبا:
- إنها الثالثة في الواقع.. لا تمر فترة إجازتي دون أن أزورها فقد أثارت إعجابي، وأنا كأمريكي أشعر بالراحة هنا.
اتسعت ابتسامة الموظف وقال:
- نرجو أن تروق لك مدينتنا دوما.
أجابه (جون) بالعبرية:
- أتمنى ذلك.
أطلق الرجل صفيرا طويلا، وقال في دهشة:
- إنك تتحدث العبرية بطلاقة.
رفع (جون) أحد حاجبيه وغمغم في خبث:
- عجبا ! يقولون أنكم حذرون للغاية في تعاملكم مع الأجانب، في حين تسألني عن تحدثي بالعبرية، وقد أنهيت فحص جواز سفري للتو! قل لي يا رجل، ألم تلاحظ أن أبي إسرائيلي وأمي أمريكية؟!
ارتبك موظف الجوازات، وابتسم في افتعال وهو يجيب:
- بالطبع.. بالطبع.. لاحظت ذلك..
هز (جون) كتفيه بنفس الأسلوب اللا مبالي، ثم مضى إلى سبيله، فمط الموظف شفتيه وهو يهمس في حنق:
- يا للأمريكان عندما يصيبهم البرود!
لم يسمع (جون) عبارته وهو يشير إلى أول تاكسي قابله ويدلف إليه وهو يقول للسائق:
- قدني إلى (برج شالوم) من فضلك.
وانطلق التاكسي إلى المكان المنشود في سرعة، في حين ظل (جون) صامتا طوال الوقت وهو يتطلع إلى ما حوله في انبهار، ويلتقط صورا للمعالم التي يمر بها عبر كاميرا المحمول الخاص به، ثم قال للسائق بالعبرية في ذهول:
- رائع! لقد تغيرت المدينة كثيرا عن آخر مرة كنت فيها هنا.
ابتسم السائق وأجاب في بساطة:
- (تل أبيب) هي أرض الميعاد يا مستر.. لن تجد مكانا على الأرض أكثر جمالا منها.
هز (جون) رأسه دون أن يعلق، ثم استمر في التقاط الصور حتى توقف التاكسي أمام (برج شالوم) - واحد من أكبر المراكز التجارية في تل أبيب - فخرج منه وأعطى السائق أجرته، ثم اتجه إلى البرج واستغرق بعض الوقت في التسوق، ثم أوقف تاكسي آخر وانطلق مباشرة إلى فندق (هيلتون تل أبيب) حيث استقبله الموظف المسئول بابتسامة كبيرة فبادله (جون) الابتسام وقال في هدوء:
- لديكم حجز عبر الانترنت باسم (جون إدوارد).
راجع الموظف أوراقه، ثم ابتسم في دبلوماسية وقال:
- بالتأكيد.. الحجرة رقم 46.. الطابق الثالث.. (ميشيل).. اصعد بالرجل إلى حجرته فلا بد أنه شديد الإرهاق.
صعد (جون) مع العامل إلى حجرته ومنحه بقشيشا مناسبا، ثم أغلق الباب خلفه وتنهد في عمق..

*****

(سيدي)..
قالها (دافيد) مساعد مدير الموساد الإسرائيلي في احترام وهو يقف أمام مكتب سيده، فرفع هذا الأخير رأسه إليه وسأل:
- ماذا وراءك يا (دافيد)؟
وضع (دافيد) أمامه ورقة طويلة تبدو فيها صور أربعة رجال، وتحتهم بيانات طويلة، وقال في آلية:
- منذ ساعة واحدة وصل إلى مطار (تل أبيب) مستر (جون إدوارد) الأمريكي الثري المعروف، صاحب مجموعة شركات الاستيراد والتصدير المعروفة باسم (بلاك تايجر)، وهي ليست المرة الأولى التي يزور فيها مدينتنا، ولكن الغريب أن موظف الجوازات شعر بأنه مختلف عن كل مرة، وقال إن طريقته لا تروق إليه أبدا.
جذب هذا الحديث اهتمام المدير في شدة، فالتقط الورقة وتساءل:
- هل أجريتم تحرياتكم؟
أومأ (دافيد) برأسه إيجابا، وقال:
- بالتأكيد، الرجل ليس هناك في أمريكا، والجميع هناك يعلم أنه سافر إلى (تل أبيب) للاستجمام في مدينة والده الراحل، كما أنه اتبع نفس نظامه كل عام، فبدأ بزيارة (برج شالوم) ثم (فندق هيلتون) الذي حجز غرفته فيه عن طريق الإنترنت من الولايات المتحدة، وكل خبراؤنا أجمعوا على ذلك من خلال التأكد من رقم الآي بي.
صمت المدير لحظات، ثم قال بنوع من عدم الاقتناع:
- ما الداعي للشك إذن؟
لم يعلق (دافيد) في حين عقد المدير حاجبيه وتابع:
- فليكن، مر رجالنا بمراقبته والتأكد من تحركاته.
ومط شفتيه وهو يكمل:
- فالأمر كله سينتهي بعد عدة أيام..
وارتجف قلبه بين ضلوعه وهو يتخيل اللحظة التي سيتحقق فيها حلمه..
اللحظة التي يتحول فيها الأقصى إلى أنقاض..
ويا له من حلم!
الفصـــــل الثاني
***

(إس جى 22)..
بدت هذه الحروف والأرقام غريبة للغاية بالنسبة للمقدم (عمر) وزملاؤه، خاصة حينما نطقها مدير المخابرات المصرية بمنتهى الحزم والثقة، لكن الجميع التزموا بالصمت وهم يحاولون استنتاج المعنى الذي يقصده المدير، حتى نهض الأخير من مكانه واتجه إلى الشاشة المعلقة خلفه والتي تبدو عليها خريطة واضحة للمسجد الأقصى والمنطقة المحيطة به، وأشار إليها قائلا:
- إسرائيل تنوي نسف المسجد الأقصى تماما ومحوه من هذه الخريطة، ويريدون أن يفعلوا ذلك بشكل مفاجئ دون إثارة العالم الإسلامي ضدهم لفترة طويلة، لذا فقد اختاروا القنابل شديدة التدمير لزرعها تحت المسجد وحوله.
ولوح بذراعيه وهو يتابع:
- هذه القنابل يجب أن يتم زرعها كشبكة متصلة، وليست منفصلة، بحيث تنفجر كلها في لحظة واحدة، ويختفي الأقصى من الوجود.
نطق الجملة الأخيرة في ضيق وغضب، ثم استعاد حزمه وتابع:
- شبكة القنابل هذه أطلقت عليها إسرائيل الرمز (إس جى 22).. وتحيطها بقدر هائل من السرية، فلا أحد يعلم عنها شيئا ولم نكن نحن لنعلم بأمرها لولا فطنة المخابرات الفلسطينية.
تنحنح (عمر) وتساءل:
- عذرا يا سيدي، ولكن ما الذي يؤكد لنا أن هذه المعلومات حقيقية؟؟
أجابه المدير في صرامة:
- إنها تندرج تحت الفئة (أ) أيها المقدم.
أطبق (عمر) شفتيه تماما دون أن يعلق، فقد كان يعلم أن الفئة (أ) تعني السرية المطلقة، وتعني أن هذه المعلومات قد تم التأكد منها بكافة السبل والوسائل..
عاد المدير إلى مقعده وزفر في حرارة وهو يتابع:
- مهمتنا عسيرة للغاية هذه المرة يا سادة، فلا أحد يعلم أين توجد خريطة توزيع (إس جى 22)، وحتى لو علمنا مكانها يجب أن نحصل عليها أو على نسخة منها دون إثارة أي قدر من الشكوك، وإلا ألغت إسرائيل خطتها أو استبدلتها بخطة أخرى، ثم يتعين علينا أن نجد وسيلة لإيقاف الشبكة أو إتلافها، وتلقين اليهود درسا قاسيا يجعلهم يفكرون ألف مرة قبل المساس بعقيدتنا وبوطننا العربي.
ألهبت كلماته مشاعر الجميع، مع شعورهم بمزيد من القلق بسبب صعوبة المهمة وخطورتها، في حين نهض المدير مرة أخرى وضغط زرا أمامه، فتبدلت صورة خريطة الأقصى وحلت مكانها صورة رجل طويل غليظ الملامح، تبدو عليه القسوة والشراسة، أسود الشعر والعينين واللحية، ولكنه يبتسم في مكر على نحو يجعلك تشعر بديانته اليهودية وجنسيته الإسرائيلية من النظرة الأولى..
وشرح المدير:
- ترجح المخابرات الفلسطينية أن خريطة (إس جى 22) تحتفظ بها إسرائيل في منزل هذا الرجل.. (إفرام إليعاذر).. الجنرال السابق في الجيش الإسرائيلي الذي شارك في عدة مذابح منها مذبحة (دير ياسين) الشهيرة، وهو واحد من أقذر مجرمي الحرب في العالم، وأكثرهم دموية وقسوة.
وصمت لحظات، ثم عقد حاجبيه متابعا:
- هذه المعلومة غير مؤكدة إطلاقا، ولكنها قد تكون طرف خيط يمكن أن يقودنا إلى شيء ما.
تساءل (عمر):
- وهل توصل الفلسطينيون إلى موعد تنفيذ (إسرائيل) لهذه الخطة؟
صمت المدير تماما هذه المرة وهو يدير عينيه بين الوجوه، فحبس الجميع أنفاسهم وهم ينتظرون الجواب في قلق، حتى جاء من المدير بطيئا وجافا:
- أسبوع على الأكثر..
وهوى جوابه كالصاعقة..
بل كالقنبلة..

****

تكملة الفصل الأول - موعد مع الكرامة

(ما ترونه الآن هو نقل حي مباشر لما يحدث داخل المسجد الأقصى)..
قالها مدير المخابرات العامة المصرية في حزم وهو يدير عينيه بين وجوه رجاله، الذين جمعهم بشكل طارئ لبحث هذه الكارثة الجديدة، وقد حاول المقدم (عمر) أن ينتبه مع رئيسه لكن عينيه كانتا تقفزان رغما عنه إلى الشاشة الكبيرة المعلقة خلف المدير، والتي تنقل ما يدور عند المسجد الأقصى..
وتابع المدير:
- كما ترون.. لقد انتقلت إسرائيل من مرحلة التهديد إلى التنفيذ، ونقلوا حجر أساس المعبد اليهودي لكي يقوموا بإنشائه بعد هدم الأقصى، ولقد بدأوا بالفعل في إخلاء المكان ومهاجمة الساحة الرئيسية للمسجد..
تعلقت عينا وقلب (عمر) بالشاشة وطار عقله إلى هناك، حيث لا زال الفلسطينيون يقاومون في بسالة ولكن الرؤية كانت مهتزة والدخان منتشر في كل مكان..
وفي أعماقه، تردد تساؤل غاضب..
كيف يمكن أن يحدث هذا؟!
كيف يهاجم الإسرائيليون رمزا من رموز الإسلام أمام أكثر من مليار وربع مليار مسلم، دون أن يترددوا أو يشعروا بالقلق، كأننا أصبحنا تماثيل لا تسمع ولا ترى ولا تتكلم؟؟
بل ماذا أصبحت المساجد عموما بالنسبة للمسلمين؟ هل هان أمرها إلى هذا الحد؟؟
ألا يستحق أمر كهذا أن تتمزق له القلوب وتتأجج من أجله المشاعر؟!
توقفت أفكاره فجأة حينما دوى انفجار عنيف فالتفت الجميع إلى الشاشة في حدة، ووجدوا الرؤية تهتز في شدة ثم تنقطع بغتة، فضغط المدير زرا أمامه وهتف:
- ماذا حدث هناك؟
أجابه مساعده من حجرة أخرى في انزعاج:
- إسرائيل تستخدم قنابل شديدة التفجير لتفريق الفلسطينيين، وقد حدثت شروخ بالفعل في جدار المسجد الغربي.
نهض المدير قائلا في حسم:
- لم يعد هناك مجال للانتظار إذن.

****

جلس رجلان فلسطينيان على أرض كوخ بدائي وأشعلا النار في بعض الحطب كي يتغلبا على برودة الجو، وقال أحدهما للآخر بصوت منخفض:
- آه يا (هيثم)! آه لو نحصل على أسلحة كتلك التي يمتلكونها !
همس زميله:
- مستحيل يا (فارس).. أنت تعلم أن المساعدات التي نتلقاها من مصر وسوريا وحتى إيران قد توقفت منذ فترة بسبب هذا الحصار اللعين.. وها نحن نحرس مخزن أسلحة قديم يضم معظم ما حصلنا عليه من أسلحة خلال عدة شهور، ونرجو الله ألا ينتبه إلينا الإسرائيليون، وإلا..
بتر عبارته فجأة وأرهف سمعه ثم هتف في انفعال:
- يا إلهي!!.. هل تسمع هذا؟؟
قفز (فارس) واقفا واتجه إلى النافذة لينظر إلى الخارج في حذر، لكنه لم ير شيئا فغمغم في قلق:
- ما الذي أثار انتباهك إلى هذا الحد؟
فوجئ بـ (هيثم) يقول له من خلف ظهره في سخرية:
- استدر في بطء أيها الغبي وإلا أمطرتك برصاصاتي.
اتسعت عينا (فارس) واستدار في بطء ووجد (هيثم) يصوب إليه فوهة مدفعه فهتف:
- مستحيل!!.. هل تخون وطنك يا (هيثم)؟!
ابتسم (هيثم) في سخرية ثم فتح باب الكوخ فتدفق عشرات الجنود الإسرائيليين إلى الداخل، وحاول (فارس) أن يحذر رفاقه لكن جندي إسرائيلي ضرب رأسه بفوهة مدفعه فألقاه فاقد الوعي..
وكشف (هيثم) عن غطاء كبير يقود إلى ممر تحت الأرض يمتلئ برجال المقاومة والمخابرات الفلسطينية، وفتحه، فاندفع الإسرائيليون عبره بغتة وهاجموا مخزن الأسلحة فجأة فقتلوا المئات وهرب الباقون، واستولى اليهود على كل الأسلحة..
واتجه قائد الكتيبة نحو (هيثم) وقال له في حماس:
- عمل رائع يا رجل.. لقد أديت كل شيء على ما يُرام.
ابتسم (هيثم) في سعادة وهتف:
- هذا يعني أنني سأحصل على مكافأتي يا سيدي، أليس كذلك؟
ضحك القائد وأشار إلى أحد رجاله قائلا:
- بالطبع بالطبع.. (حونين).. امنح الرجل مكافأته.
ورفع (حونين) مدفعه فجأة نحو رأس (هيثم) فاتسعت عينا هذا الأخير وتراجع في ذعر..
وانطلقت الرصاصة..
وفي ازدراء، مط القائد شفتيه ورمق جثة (هيثم) بعين واحدة، قائلا:
- إلى الجحيم ايها الحقير.. هل كنت تظن أننا سنعتمد على فلسطيني خائن قذر مثلك؟!
وتألقت عيناه في ظفر..

مناقشة !

يا أمة الرجل الذي
علم الدنيا مكارم الأخلاق

لماذا تدنيتم؟
وقلتم تدينتم

وهذا منكم كذب واختلاق

ما أراكم إلا ضللتم
واستكبرتم

فستأتي لحظة الافتراق

يوم تذهب الدنيا
ويذهب حلوها ونعيمها
يومئذ تذوقون مرها

قلتم
هذا ابتلاء

قلت
وهل جاء إلا بعد أن ضاع الوفاء؟

قلتم
قد كنا في العلاء

قلت
وهل تخليتم عنه؟
أم ضاع منكم
وذهب للأعداء

سكت الجميع

قلت
أفيقوا
انهضوا

ألم يصبكم الداء
فأنهككم
وحل بكم العناء؟

أنا معكم
هيا

هيا نقدم أنفسنا فداء

رسالة الحق

ما هذا الذي يحدث؟ لماذا تسيطر هذه الفكرة على رأسي؟ لم أعد قادراً على الحركة أو الكلام.. كل ما أفعله هو التفكير.. وبمنتهى العمق..

صار الوجوم هو حالي دائماً.. أصبحت الحيرة والصمت ملازمَيْن لي أينما ذهبت.. هل تعلمون لماذا؟
إنها فكرة خطرت على بالي في إحدى الليالي التي لم يجد فيها النوم طريقاً إلى عينيّ.. فحَوَّلت حياتي كلها إلى حالة من التفكير العميق.. والقلق الشديد..

لقد أغمضت عينيّ وطار عقلي عبر الزمان والمكان وخُيِّل إليّ أن روحي قد فارقتني وصعدت إلى بارئها.. شعرت وكأنني فوق كل من حولي.. أراهم من حيث لا يروني.. وطرت أكثر وأكثر وابتعدت كما لم أبتعد من قبل..

رأيت منزلي.. ثم صار المشهد أوسع فأوسع فظهرت أمامي مدينتي كلها وأخذت أنقّل بصري فيها من منزل إلى آخر.. ولكن عقلي لم يتوقف عن الطيران.. وها أنا ذا أرى كوكبي.. ذلك الكوكب الذي تغلب عليه الزرقة وتكسوه بين الفينة والفينة مساحات خضراء واسعة..

أين أنا؟

لم ينجح ذلك السؤال الحائر في أن يوقف عقلي عن التحليق والطيران.. لم ينجح في أن يحرك جفوني ويجعلني أستيقظ مما أنا فيه.. هل أحلم؟؟

ولكن مشهد كوكب الأرض تغير في سرعة ووجدت نفسي أحدق في وجوه الكثير من الناس.. شيوخ ورجال ونساء وأطفال.. بعضهم يضحك في مرح والبعض الآخر يبكي في شدة حتى كاد أن يفقد بصره..

رددت مرة أخرى: أين أنا؟

دارت الدنيا كلها لأجد أمامي صحاري واسعة وجبال راسخة على مرمى البصر.. ولكن أين البشر؟ كل هذه المساحة دون أن يسكنها بشري واحد؟؟ رأيت أشجاراً وغابات وأنهار.. رأيت الأرض بكراً عذراء لم يمسسها بشر.. حتى أنني تخيلت نفسي أستنشق هواء نقياً عليلاً لم تلحق به الأتربة أو يؤثر عليه التلوث..

وترددت تلك الصيحة للمرة الثالثة داخل رأسي: أين أنا؟

دار كل شيء فرأيت أقواماً يرتدون ثياباً ترجع إلى العصور الوسطى ويقيمون في خيام وقلاع.. يتحدثون بلغات مختلفة ولا يعترفون إلا بمنطق القوة..

رأيت جيوشاً تزحف في كل مكان.. رأيت الحروب تشب بين الجميع دون رحمة أو شفقة.. رأيت الرجال يُقتَلون والنساء تُسبى والأطفال يؤخذون عبيداً والشيوخ يُذبحون بلا وازع من ضمير..

فتحولت صيحتي إلى صرخة: أين أنا؟

وهنا، أضاء ذلك النور ليغمر الأرض كلها.. رأيت من حيث أنا الكوكب كله يشرق بنور الله.. رأيت الأرض يعمها العدل والخير والسلام في كل مكان.. رأيت السباع تُسَبِّح لربها بين الأشجار في الغابات.. سمعت صوت التسبيح والتهليل والتكبير يدوي تحت الماء.. الأسماك والحيتان وكل المخلوقات تهتف بحمد ربها عز وجل..

فسمعت تنهيدة ارتياح تخرج من صدري ولكن السؤال ظل قائماً: أين أنا؟

ظل المشهد ثابتاً هذه المرة.. طويلاً جداً.. حتى أنني كدت أسأل السؤال نفسه مرة أخرى.. ولكن فجأة سمعت الصرخات والعويل.. رأيت الدموع تسيل والدماء تُسفَك والحرمات تُنتَهَك.. رأيت النور يخفت.. طغى الظلم والاستبداد على كل شيء.. شعرت بأن كوكبي يمر بأسوأ مرحلة عرفها منذ نشأته.. لم أستطع أن أغمض عينيّ حتى لا أرى الاستبداد والتعذيب يسري في كل شيء كالنار في الهشيم..

ثم وجدت نقطة صغيرة تشع ضوءاً خافتاً متقطعاً..

ولكن صرختي دوت هذه المرة: أين أنا؟

صمت كل شيء.. لم أرى ولم أسمع شيئاً.. حتى أنفاسي شعرَْت أنني لا ألتقطها.. ساد الظلام حولي فلم أعد أرى كوكبي ولا أعرف ما يدور فوقه..

"أنت ترى ما لا يراه الناس"

انتفض جسدي – أو لنقل عقلي – حينما سمعت هذه الإجابة بصوت هادئ وعميق وهتفت في ارتياع:

-أين أنا؟ ماذا يحدث؟ من أنت؟

"أنت حيث لا يستطيع غيرك أن يصل إليك"

ساد الصمت مرة أخرى ثم سمعت الصوت يُكمِل:

"ألم تفهم حقاً ماذا يحدث؟"

عاودني الهدوء وشملتني السكينة مع ذلك الصوت الذي يبعث الراحة في النفوس ووجدت نفسي أسترخي وأستمع..

"عندما تفكر وتدرك ما يحدث، ستعلم بلا شك مَن أنا"

"أرأيت يا بني كيف كانت الأرض؟ أرأيت الظلم والاستبداد؟ أسمعت أصوات البكاء والعويل والصرخات؟ هل شممت رائحة النار والبنادق والبارود؟"

"لقد سيطر الظلم كثيراً وطويلاً على مر الزمان وأنزل الله عز وجل رسله ليُخرِج الناس من الظلمات إلى النور ويهديهم إلى خير السبل.. فمنهم من اهتدى ومنهم من حق عليه العذاب.. ولكن حكم الله هو النافذ في النهاية.. لا مبدل لحكمه.. فكن يا بني مع من استمع إلى القول فاتبع أحسنه.. كن مع الله ولا تكن مع الشيطان"

"إن الحق قوي، وهو نور يمشي به جند الله في أرضه، وقد كان أجدادك من المسلمين بدءاً من أول أنبياء الله وانتهاء بخاتم المرسلين سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم نبراساً للهدى والحق.. وقد قال الله عز وجل عنهم: (من المؤمنين رجال صدقوا ما عاهدوا الله عليه فمنهم من قضى نحبه ومنهم من ينتظر وما بدلوا تبديلاً)"

"هل ترضى لنفسك يا بني أن تتنازل عن معية الله وحفظه وأن تعيش في معية الشيطان؟ لقد فعلها قبلك الكثيرون والكثيرون.. ألم تتساءل لماذا خفت النور بعد أن كان قوياً؟ لأن أبناء المسلمين وأحفادهم من بعدهم قد أضاعوا دينهم واتبعوا شهواتهم فضَلُّوا عن سبيل الله.. ضاع نور الحق بين الناس فصارت حياتهم ظلمة لا تُطاق"

"وهل رأيت يا بني تلك النقطة المضيئة التي لا تزال موجودة بعد طغيان الظلمة في كل مكان؟ إنه نور الحق.. الشعلة التي لا يزال المسلمون يحملونها.. الرسالة التي يؤدونها عن أسلافهم دون تعب أو كلل.. هؤلاء هم أحباب الله.. هؤلاء هم الغرباء.. ألم تسمع نبي الله صلى الله عليه وسلم يقول: (طوبى للغرباء).. ألا تعلم من هم الغرباء؟ إنهم (الذين يصلحون إذا فسد الناس)"

"إنه نداء إلى كل مسلم.. اتبع طريق الله وإياك والبعد عن سبيله.. حتى تكون من أصفياء الله وأحبابه وحتى تكون برفقة المصطفى صلى الله عليه وسلم في أعلى الجنان"

"هيا يا بني.. هل ستنصر ربك ودينك ونبيك أم ستخذلهم؟"

حاولت أن أجيب ولكن وجدت كل شيء يدور بي مرة أخرى وأظلمت الدنيا تماماً من حولي.. وفجأة وجدت نفسي جالساً فوق فراشي أدير عينيّ بين جدران شقتي وأكاد لا أصدق أنني قد عدت..

عدت من أين؟؟ لا أدري..

ولكنني فهمت..

وسمعت أذان الفجر يدوي وسط سكون الليل فنهضت لأتوضأ في نشاط وقلت لنفسي:

- الحمد لله الذي هدانا لهذا وما كنا لنهتدي لولا أن هدانا الله..

حروف من نور

حروف من نور
كان يوماً جميلاً ذلك الذي قررت فيه أن ألحق بمحاضرة العاشرة صباحاً في كليتي ، فاستيقظت في الثامنة تماماً وجهزت نفسي ثم انطلقت.. لحقت بأحد (الميكروباصات) لينقلني إلى حلوان ، وفور أن جلست داخله لاحظت بجواري رجلاً ملتحياً وقوراً يقرأ من كتاب الله ، فتهلّل وجهي وأسرعت أصافحه وأنا أقول:
- الشيخ (توفيق).. كيف حالك؟
ظل الرجل صامتاً لحظات حتى أنهى قراءة الآية ثم صَدَّق وتهلل وجهه بدوره وهو يصافحني في حرارة قائلاً:
- كيف حالك يا دكتور؟ سررت برؤيتك حقاً.
تبادلنا بعض عبارات المحبة والمجاملة قبل أن أمد يدي إلى جيبي وأنا أهم بسؤاله إن كان قد دفع الأجرة أم لا ، إلا أن الرجل أوقف يدي وهو يقول في رصانة:
- هل تشتمني يا دكتور؟
شيء ما في لهجة الرجل الرصينة الجادة الحازمة في الوقت نفسه جعلني أقول مستسلماً:
- العفو يا شيخ (توفيق).
لم أستطع الاعتراض عندما دفع لي الأجرة ثم عاود قراءة المصحف وأنا أجلس بجواره فلاحظت أنه يردد آية معينة دون كلل أكثر من عشرة مرات ، فلم أستطع حبس فضولي وأنا أسأله:
- لماذا تردد هذه الآية يا شيخ (توفيق)؟
ظل صامتاً لحظات ثم ابتسم وأجاب:
- للتدبر يا دكتور.. أما علمت أن من قرأ حرفاً من كتاب الله كانت له به حسنة؟
لا أدري لماذا تطلعت إليه طويلاً دون أن أجيب.. لقد انطلقت أفكاري تقلب هذه الجملة الشريفة كأنني أسمعها لأول مرة..
حسنة.. نعم.. ولكن ماذا تعني لنا الحسنة؟ ما قيمة هذه الكلمة عند أمة سيد الخلق هذه الأيام؟ هل تمثل لنا كل ما نطمح إلى تحقيقه في الدنيا حتى نتوسد التراب؟ هل تكفينا الحسنات حتى تجعلنا نقاوم كل إغراء ونتجنب كل العقبات في طريق الله؟ كم منا يفضل الحسنة على المال؟ كم منا قد سَخَّر كل ما يبذله من مجهود في حياته كي يحصل منه على الحسنات؟ كم منا قد حول دنياه إلى مخزن كبير أو عَدَّاد يُحصِي عليه حسناته وسيئاته ليكون مرشداً ومُقَوِّماً له في حياته؟
لاحظ الشيخ (توفيق) شرود ذهني فلم ينتظر إجابتي بل عاود القراءة في مصحفه وعدت أنا للاسترخاء في مقعدي.. وصل الباص إلى حلوان فافترقنا وذهب هو في طريقه وأسرعت أنا إلى محطة المترو ولم أكد أصل حتى وجدت المترو متوقفاً وهو يُطلِق صفيره المزعج فأسرعت أندس وسط أكوام البشر في إحدى العربات.. وفور أن خطت قدمي داخل العربة سمعت رجلين يتحدثان بجواري يقول أحدهما للآخر:
- أما علمت أن من قرأ حرفاً من كتاب الله كانت له به حسنة؟
حملقت في وجه ذلك الرجل في شدة ثم أسندت رأسي إلى باب العربة وعاد فكري للانطلاق.. حاولت طوال الطريق أن أحاسب نفسي لكي أجعل كل أفعالي خالصة لله دون أن يشوبها التكبر أو الرياء.. حاولت أن أجعل الحسنات نصب عيني في كل حياتي..
وصل المترو إلى السيدة زينب فنزلت منه وتركت المحطة لأتجه إلى كليتي لكني وجدت رجلا يجلس على الأرض ويصيح بتلك الجملة العامية البحتة المعروفة:
- (حسنة قليلة تمنع بلاوي كتيرة).
توقفت بجواره ووضعت يدي في جيبي وأخرجت ما لم أنظر إليه وأسرعت أناوله للرجل في خفة ثم ابتعدت وأنا أفكر في دعاء الرجل لي وفي تلك (البلاوي الكتيرة)..
كنت أعبر الطريق في تلك اللحظة فلم ألحظ تلك السيارة المسرعة التي تنطلق نحوي وعندما انتبهت لوجودها كانت على بعد متر واحد مني وأدركت أنها ستصطدم بي حتماً لكني لم أستطع منع ذهني من التفكير في الحقيبة التي أحملها على كتفي والتي تحوي أدوات مهمة معظمها من الزجاج كلفت أبي ما يزيد على الخمسمائة جنيه.. لم أكن أنا الضحية الوحيدة ولكن كل ما كنت أحمله أيضاً..
ولكن فجأة وجدت شاباً طويلاً يدفعني من ظهري ويسقط معي أرضاً وهو يصرخ:
- احترس.
تدحرجنا نحن الاثنان على الأرض وطارت حقيبتي بعيداً فسقطت أرضاً في عنف ، وتجاوزتنا السيارة بمعجزة..
نهضت في سرعة وأنا أتجاهل ذلك الألم الذي يسري في جسدي وعاونت الشاب الذي أنقذني على النهوض وشكرته في شدة على شجاعته ونبله، ثم أسرعت إلى حقيبتي وأنا أدرك أنني سأجد كل أدواتي محطمة تماماً..
ولم أكد أفتح الحقيبة حتى اتسعت عينيَّ في شدة ووجدت نفسي أخرّ لله على ركبتيّ وسط الشارع وأرفع ذراعيّ نحو السماء وأنا أردد في خشوع:
- سبحانك يا رب.
فقد كانت كل أدواتي سليمة بعد أن وجدت (البالطو الطبي) الخاص بي ملفوفاً حولها فتلقى عنها صدمة الارتطام بالأرض وحافظ على سلامتها تماماً..
لم أكن أنا أو أي فرد من أسرتي قد وضع البالطو بهذا الشكل كما علمت بعد ذلك، ولكن العناية الإلهية وحدها هي التي تحفظ وتعين من يتفضل عليه الله برضاه..
وكان مشهداً مميزاً مهيباً حينما توقفت كل السيارات عن يميني وعن يساري وأخذ المارة يتطلعون إليّ دون أن أشعر بأي منهم وقد سيطرت على ذهني تلك الكلمات:
- (حسنة قليلة تمنع بلاوي كتيرة).
- (من قرأ حرفاً من كتاب الله كانت له به حسنة).
نهضت ألتقط حقيبتي دون أن أشعر بمن حولي ولا بالنظرات التي يوجهها لي الجميع كالسهام وذهبت لكليتي وحضرت المحاضرة ثم خرجت منها وجلست أمام المدرج أتلو كتاب الله..
فمن يحفظ الله يحفظه..
ومن يقرأ القرآن يحصل على كنز من الحسنات..
فتقيه مصائب الدهر ونوائب الزمن..
وتقوده بإذن الله إلى الجنة..
تذكر ذلك جيداً..

موعد مع الكرامة !! الفصل الأول

الفصـــــل الأول
***
جلس المقدم (عمر عبد اللطيف) وبجواره زميله الرائد (كمال مختار) أمام شاشة الكمبيوتر، والتزما بالصمت تماما وهما يتابعان مقطع فيديو عبر شبكة الإنترنت، تبدو فيه فرقة عسكرية إسرائيلية وهي تحاصر مجموعة من الفلسطينيين يقاتلون في بسالة، وسط معركة غير متكافئة على الإطلاق، خاصة حينما بدأ الإسرائيليون يستخدمون القنابل الحارقة، ويطلقون النار في غزارة، فزفر (كمال) وغمغم في مرارة:
- متى سينتهي هذا الكابوس؟
تجمدت نظرات (عمر) على الشاشة وأجاب:
- لكل شيء نهاية.
وصمت لحظات ثم تابع في قوة:
- الأمر يحتاج إلى مزيد من القوة والإصرار.. يحتاج إلى الوحدة.
قال (كمال) متهكما:
- الوحدة!.. حقا؟؟ أتظن هذا ممكنا؟!
قبل أن يجيبه (عمر) اقتحم رجل ثالث المكان وهتف في انزعاج شديد:
- إسرائيل تهدم المسجد الأقصى!!
وارتجف قلبا الرجلين في فزع..

***

تثاءب جندي إسرائيلي في مشهد مقزز وهو يلوح بذراعه قائلا لزميله الذي يقف بجواره:
- تبا لكل هذا الحذر! إنني أقف معك هنا لحراسة هذه المنطقة منذ ما يقرب من ساعتين دون أن تجرؤ نملة على الاقتراب! أتظن أن هناك مجنونا واحدا يمكنه مهاجمة منطقة عسكرية إسرائيلية، في قلب القدس؟!
تلفت زميله حوله في حذر وهو يغمغم:
- كل شيء جائز يا (إيزاك).
صاح (إيزاك) في حنق:
- إلا هذا يا (حاييم)! هؤلاء الفلسطينيون مجرد مجموعة من الكلاب الضالة الحقيرة التي لا تجد مأوى! ألا تتذكر هذا الشاب الذي حاول مقاومتنا منذ أسبوع، فنزعت أظافره وسلخت جلده بالبارود؟.. حتى حينما حاولت أخته حمايته والتظاهر بالبطولة، سقط منها المسدس وانخرطت في البكاء!
التفت إليه (حاييم) وهتف:
- وماذا عن الشاب الذي قتل اثنين من جنودنا البارحة بالحجارة واستولى على أسلحتهما ليباغت المخيم ويسبب لنا أضرارا فادحة؟؟ لقد اضطررنا إلى سحق جسده تحت دبابة حتى نتخلص منه!! كلا يا (إيزاك).. إنهم يتميزون بالشجاعة والجرأة..
انهمك الاثنان في مناقشة حادة دون أن ينتبها إلى فتاة فلسطينية شابة تمر من بعيد وهي تترنح في إعياء، وقد تمزقت ثيابها وامتلأ جسدها بالجروح والكدمات، لكنها تحاملت على نفسها كي تتحرك وتتجه إلى منزل صغير فارغ، ودلفت إليه ثم أغلقت الباب خلفها وهي تبكي من فرط الألم، ثم ألقت جسدها على الأرض وهي تلهث في شدة..
تذكرت ما حدث منذ قليل حينما اقتحم الإسرائيليون منزلها الذي تقيم فيه مع زوجها، فنجح الأخير في تهريبها عبر مخرج خلفي حتى لا تواجه هذا المصير المظلم الذي يعلمه كل فلسطيني، خاصة أنها حامل وعلى وشك الوضع..
توقفت ذكرياتها بسبب هذا الألم الرهيب الذي تشعر به، وانقبضت عضلات رحمها في شدة حتى تطرد الجنين القابع داخله والذي يصر على المجيء إلى الدنيا في توقيت حرج، وحاولت أن تكتم صرختها حتى لا تكشف موقعها ولكنها لم تنجح فانطلقت عالية مدوية وتعلقت يداها بأي شيء حتى تخفف عن نفسها آلام الولادة..
ومع الصرخة الثانية، أصبح جنينها رضيعا، واندفع جسده خارج جسدها وهو يشهق ويبكي في شدة، وانفجر شلال من الدم والسوائل عقب خروج الجنين، وسط بيئة غير معقمة تسمح لمئات الأمراض أن تصيب الفتاة، إلا أنها كتمت كل الآلام في أعماقها وهي تنظر إلى ابنها في عطف وحب وحنان، ثم انفجرت دموعها وهي تردد:
- الحمد لله.. الحمد لله.
ولكن فجأة سمع جندي إسرائيلي صراخها فاقتحم المكان ورمقها بنظرة صارمة ثم صوب مدفعه إلى رضيعها، فصرخت بكل قوتها وهي تلقي جسدها أمامه حتى تتلقى عنه الرصاصات:
- كلا.. كلا.. ليس ابني.
ولكن الإسرائيلي - الذي أوقف كل مشاعر الإنسانية والرحمة داخله وتحول إلى حيوان مفترس حقير - تقدم إلى الأمام وركل جسد الفتاة بقدمه ليزيحها من أمام الطفل، فألقت الفتاة نفسها تحت قدمي الجندي وصرخت بكل ما تشعر به من ذل وانكسار وهلع وخوف وحب لابنها:
- أرجوك.. أتوسل إليك.. لا تقتله.
خيل إليها أن طفلها يبتسم في هدوء، وتخيلت كأنه فتح عينيه ونظر إليها مباشرة، وسمعت صوتا يتردد داخل رأسها فقط قائلا:
- لا تقلقي يا أماه.. سألقاكِ في الجنة إن شاء الله.
وهنا، ضرب الإسرائيلي وجهها بقدمه في قسوة ثم صوب مدفعه إلى الطفل..
وانطلقت الرصاصات..