مملكة الإبداع

إنها مملكة أهديها إلى أعز الناس، وأحب الناس، وأغلى الناس، فهي من أرشدتني إلى إنشائها وإليها أهدي كل الكلمات..

عشرة أيام في الدفاع الجوي .. قصة حقيقية (الجزء الثاني)

وقفت شامخا قويا أستند إلى سلاحي على الرغم من انقلاب المكان كله، والأنوار التي أُضيئت في كل ركن من أركان الكتيبة، ووجدت سيارة جيب تتجه نحوي وعلى متنها مجموعة من الرجال يرتدون زي الجيش (الأفرول) ويحملون أسلحتهم وفي مقدمتهم ضابط عظيم يتطاير الشرر من عينيه وقد اسود وجهه وانتفش شعره على نحو مزري..

وفور أن اقتربت السيارة تعرفت عليه.. كان الضابط "عزيز".. ضابط مسيحي يحمل رتبة (ضابط عظيم) ويرتجف الجميع عساكر وضباط من مجرد ذكر اسمه.. توقفت السيارة أمام السلك الشائك وقفز منها الضباط ثم اتجه نحوي الضابط عزيز وقال في صرامة وهو يلوح بذراعيه:
سلم سلاحك حالا يا عسكري واجري ورا العربية.

تفجرت الدهشة في وجوه العساكر المصاحبين للضابط العظيم عندما أجبته بكل صرامة الدنيا والاحترام الواجب في الوقت نفسه:
أنا آسف سعتك يا فندم.

استشاط الرجل غضبا وصرخ بصوت هز المكان كله:
بتقول ايه يا عسكري؟؟

كررت في ثبات:
أنا آسف سعتك يا فندم.. سلاحي مش هسلمه غير بعد ما ورديتي تخلص وأمضي إني خلصتها وبعد كدة أكون تحت أمر حضرتك.

صرخ كالمجنون:
انت مش عارف انت عملت ايه يا عسكري؟؟ انت ضربت مساعد ضابط عظيم وجرحته.. عارف دة معناه إيه؟ انت مستنيك محاكمة عسكرية ومش بعيد تقضي بقية عمرك في السجن.. وخد بالك إنك كنت مهمل أثناء حراستك للمكان لدرجة إنه قرب منك ووقف وراك علطول وانت محستش بيه عشان كدة قرر يخبطك وينبهك لخطأك.. يعني كمان مستنيك عقوبة الإهمال..

لم أرد هذه المرة.. كنت أعلم يقينا أن عقوبة تسليم السلاح والانصراف قبل نهاية الخدمة معناها محاكمة عسكرية أشد قسوة وربما نهاية حياتي في ظلمات بلا قرار.. قفز الضابط عزيز مع العساكر إلى السيارة الجيب مرة أخرى وعادت من حيث أتت

في السادسة تماما عادت السيارة إليّ.. أوقفت العسكري الذي سيحل محلي وطالبته بكلمة السر.. ذكرها فتركته يقف مكاني وسلمت نفسي إلى الضابط عزيز.. أمرني بالجري خلف السيارة بلا توقف حتى نعود أدراجنا.. جريت حتى انقطعت أنفاسي ثم سلمت سلاحي للقيادة وزيلت الورقة بإمضائي على ذلك.. شعرت بالارتياح.. فليفعل هذا الضابط ما يشاء.. لقد انتهى الأمر..

أمر الضابط أحد عساكره بقص شعري تماما حتى صرت أصلع ثم أمر بتحويلي فورا إلى سجن العساكر..
هناك استقبلني الجميع بحفاوة غير عادية.. لم ينس أحدهم كيف جاهدت طويلا في سبيل الحصول على مستحقاتهم المادية المتأخرة.. رويت لهم ما حدث معي فقال لي بعضهم بمنتهى الثقة:
متقلقش.. الضابط عايش لما يعرف اللي حصلك هيقلب الدنيا.

لم أكترث.. ماذا يمكن أن يحدث أسوأ من هذا؟!

في الصباح الباكر وقفت في طابور المساجين.. ملابسي رثة، أصلع تماما، تحمل ملامحي قدرا هائلا من الإرهاق.. وقف الضابط عايش يراقب طابور العساكر.. لم يدر بخلده إطلاقا أنني أقف في طابور المساجين!!
دارت الأفكار في رأسه.. ترى لماذا لا يقف ممدوح في الطابور؟ ألم يذهب إلى الوردية؟ لقد أكدت عليه!

بعد الإفطار أرسلت عسكري زميلي ليشرح للضابط عايش ما حدث تفصيليا..
وانقلب كل شيء رأسا على عقب..

لم يكد الرجل يسمع بما حدث لي حتى احمر وجهه كاللهب واندفع نحو مكتب الضابط عزيز ثم ضرب الباب بقدمه ونظر شزرا إلى هذا الأخير وهو يصرخ بصوت هائل هز كل شيء وكل شخص حوله:
انت.. انت!! تجرؤ تهين عسكري عندي وتبهدله وتسجنه من غير محاكمة؟؟!

حاول الضابط عزيز أن يرد ولكن الغضب الهائل الذي تملك الضابط عايش كان أقوى من أي رد.. أسرع الجميع يهدئون من الموقف والضابط عايش يصرخ كالمجنون:
أبعته عشان يؤدي خدمته بدل الراجل اللي مش موجود.. وتسجنوه.. للدرجة دي بلغت بيكم السفالة!! للدرجة دي..

خرج الضابط عايش من مكتب الضابط عزيز إلى مكتب رئيس سلاح الدفاع الجوي مباشرة.. وهناك شرح له الموقف بالكامل وهو يغلي من الغضب.. فوجئت بالرئيس نفسه يرسل في طلبي لكي أحضر إلى مكتبه.. أمرني الضابط عايش ألا أقوم بتغيير ثيابي حتى يرى الرئيس ما حدث لي دون تعديل.. دلفت إلى مكتب رئيس الدفاع الجوي وضربت الأرض بقدمي وأنا اقف بجوار الضابط عايش وأقول في قوة:
تمام سيادتك يا فندم.

نهض الرجل عن مقعده ودار حولي وهو يتفرس في ملامحي.. شعرت بمدى الغضب المكتوم الذي اجتاحه عندما رآني على هذا الحال.. سألني بصوت أشبه بالفحيح:
الضابط عزيز هو اللي عمل فيك كدة؟

أجبت:
أيوا سيادتك يا فندم.

فوجئت به يصيح:
عسكري.. انت من اللحظة دي واخد أجازة 10 أيام بأمر مباشر مني.. انت فاهم؟!

أسرعت أؤدي التحية العسكرية وضربت الأرض ثم اندفعت أغادر المكتب.. عدت إلى غرفتي لكي أجهز ثيابي وأحصل على حمام ساخن يزيل عني الإرهاق الرهيب الذي أشعر به.. تعمدت المرور أمام حجرة الضابط عزيز أثناء توجهي إلى دورة المياه.. بل اخترت دورة المياة الملاصقة لغرفته بالتحديد كنوع من التحدي !!

وفي أثناء انصرافي من المكان عرفت أن القائد قد ارسل إلى الضابط عزيز وعنفه في شدة ثم عقد جلسة طارئة للتصالح بين الضابطين عزيز وعايش.. أطرقت برأسي وقلت في إيمان:
إن الله يدافع عن الذين آمنوا.

بقى أن أخبركم أن مساعد الضابط العظيم الذي ألقيته على السلك الشائك قد تعافى بسرعة وأصبحت أنا وهو صديقان حميمان حتى انصرافي من هذا المكان..

وكان فضل الله عليّ عظيما..

تمــت

عشرة أيام في الدفاع الجوي .. قصة حقيقية (الجزء الأول)

الأيام الأخيرة من شهر يناير - 1979
المكان: أحد كتائب الدفاع الجوي - جبل عتاقة

***

جلست في المكتب المكيف الخاص بالضابط "عايش" أحد كبار الضباط في سلاح الدفاع الجوي، وقد جلس أمامي هذا الأخير يراجع بعض الأوراق وهو ينفث دخان سيجارته في عمق..

انهمكت في كتابة أسماء العساكر في ملف ضخم بخط كبير وواضح وأنا أنفث دخان سيجارتي بدوري.. كان من ينظر إلى المكتب يظن أنني والضابط عايش زملاء في نفس الرتبة.. كلانا ينفث سيجارته ويمارس عمله ويضحك أحيانا في مرح ويتبادل الحديث مع الآخر بمنتهى الهدوء والثقة والأخوية.. ولكن الحقيقة أن رتبتنا مختلفة تمام الاختلاف ، فأنا مجرد عسكري جديد في المكان وهو أحد كبار الضباط في سلاح الدفاع الجوي..

كل ما جمعنا في هذا الموقف أن الرجل لمس داخلي الكثير من الأمانة والأخلاق ودقة العمل فعهد إليّ بكتابة أسماء العساكر الذين يؤدون خدمتهم العسكرية في الدفاع الجوي وتولي ما يلزم من ترتيبات لصرف مستحقاتهم المالية، فكنت بالتالي لا أتولى أي ورديات حراسة خارج المكتب وانحصر عملي كله في الأمور المكتبية والمالية..

في هذه اللحظة اتجه زميلي الآخر في المكتب نحو الضابط عايش وقال له في لهجة عسكرية تحمل الكثير من الاستعطاف:
بعد إذن سيادتك يا فندم ممكن أسافر النهاردة لأهلي في الفيوم وأرجع علطول أستلم ورديتي بليل؟

لم أكن أعرف أحدا أكثر طيبة وأخلاقا وتدينا من الضابط عايش فهو طويل قوي البنية أبيض البشرة شديد الحياء يتعامل مع الجميع بمنتهى الود والاحترام لذا فقد توقعت إجابته قبل ان ينطقها قائلا:
طيب مش عايزك تتأخر.. ورديتك من نص الليل بالظبط.. مش عايز تأخير دقيقة.

ضرب زميلي الأرض بقدمه ورفع يده بالتحية العسكرية وهو يهتف:
تمام سيادتك يا فندم.

وأسرع ينصرف فرفع الضابط عايش عينيه إليّ وقال مع ابتسامة رصينة:
اشرب الشاي يا "ممدوح".. عايز سيجارة؟

شكرته بشدة ثم تابعت عملي في هدوء ودقة..

***

نسيت أن أخبركم أن اسمي "ممدوح عبد الحي" وأنا عسكري في الدفاع الجوي وأحمل مؤهل متوسط.. رزقني الله تعالى بقدرات متميزة وخط جميل وقوة جسمانية وجسدا طويلا متناسقا حيث كنت أمارس رياضة كمال الأجسام لفترة..

قبل أن يحدث هذا الموقف الذي رويته لكم بعدة أيام كنت أمر على سجون العساكر عندما أخبرني بعضهم بأنهم لم يتلقوا مرتباتهم ومستحقاتهم المالية المتأخرة منذ فترة.. شعرت بالشفقة للحال الذي وصلوا إليه فحاربت بكل قوتي ووقفت ساعات طويلة في طوابير لا تنتهي لتسليم أوراقهم واستخراج مستحقاتهم المالية ثم سلمتها لهم.. كم أشفقت أنهم يعيشون شهورا طويلة في ظروف لا يتحملها بشر لمجرد أنهم اضطروا للتغيب يوما أو يومين أو تأخروا عن ميعاد الطابور اليومي فتمت احالتهم فورا إلى السجن.. وصرت منذ هذه اللحظة حبيبا إلى قلوبهم خصوصا حينما علموا بعلاقتي المقربة من الضابط عايش..

***

في نفس ذلك اليوم الذي سافر فيه زميلي إلى الفيوم وجدت الضابط عايش يزوم في مكتبه ويتحرك جيئة وذهابا في عصبية فسألته:
فيه حاجة ولا ايه؟

لوح بذراعيه وصاح:
"مصطفى" زميلك مرجعش لحد دلوقت وورديته قربت تبدأ.. احنا بنختار واحد بس من كل مكتب يوميا لحد ما نخلص كل المكاتب وبعدين نكرر نفس النظام.. أنا كنت كل مرة بختار مصطفى يطلع الوردية دي خصوصا انها شنجي.. عارف لو كانت برنجي أو كنجي يمكن كنت اتصرفت.. لكن كدة مصطفى هيحطنا في موقف محرج ولازم عسكري من مكتبنا يقف شنجي من نص الليل لحد الساعة 6 الصبح

ثم نهض واتجه نحوي وهو يقول في ضيق:
معلش يا ممدوح.. الظاهر مفيش حل تاني.. عايزك تخلص الوردية دي بدل مصطفى.. أنا عارف ان الشغل تقيل عليك وإنك مش ناقص لكن هعمل ايه..

قفزت واقفا أؤدي التحية العسكرية وقلت في قوة:
أكيد يا فندم.. كفاية إن حضرتك اللي كلفتني بكدة.. تحت أمرك..

سلمت نفسي للقيادة فقامت على الفور بتوزيعي لحراسة مخزن الوقود والمتفجرات.. حملت سلاحي واتجهت لتسلم الوردية من زميلي البرنجي.. ألقيت عليه كلمة السر ثم وقفت مكانه.. لم يكن هناك أحد في المكان على الإطلاق والبرد قارص إلى الحد الذي يجعل ملابسي تتجمد فوق جسدي وتلتصق به.. ظللت أتحرك جيئة وذهابا في المكان.. وبالطبع كان من الجنون إشعال النار بحثا عن التدفئة وأنا أحرس مخزن الوقود!

سيطر الهدوء على المكان إلا من صفير الرياح وقد بدأت أجفاني تتثاقل ويغلبني النعاس ولم أعد قادرا على الحركة.. جلست لحظات حتى اقترب وقت الفجر ثم نهضت أستدير ففوجئت برجل ضخم أمامي يهوي على صدري بكفه بلكمة كالقنبلة.. تراجعت خطوتين ثم اندفعت نحوه أقبض على مؤخرة عنقه وساعده ودفعته بكل قوتي نحو الأسلاك الشائكة المحيطة بالمكان.. صرخ الرجل في رعب وهو يرى جسده يندفع نحو أطراف السلك المدببة ثم تحولت صرخته إلى ألم هائل حينما انغرست في مواضع شتى من جسده وتفجرت الدماء تغرق ثيابه.. فوجئت به يرفع صفارة كبيرة إلى شفتيه ثم ينفخ فيها بكل قوته لتشق هدوء الفجر وتنتزع الجميع من أماكنهم.. وفي نفس اللحظة قفز العسكري المسئول عن جرس الإنذار الضخم الخاص بالطوارئ القصوى يجذبه إلى أسفل..

وفي لحظة واحدة تحول المكان إلى خلية نحل وبدأت أدرك فداحة ما فعلت.. نزع الرجل نفسه من السلك الشائك وانطلق يعدو وهو يصرخ بكل قوته.. اتسعت عيناي بكل ذعر الدنيا وقد أدركت حقيقة هذا الشخص الذي كدت اقتله..

كان مساعد ضابط عظيم !!

(نهاية الجزء الأول)

قـــرار يعني لي الكثير

البارحة - الحادية عشرة ليلا

"محمد لو سمحت الأوردر دة مستعجل .. عندك ملف في مكاننا المعتاد باسم الباشمهندس (............) .. افتحه وعدل المقاس بتاعه خليه 130 في 50 .. ونقيله خلفية على ذوقك .. عايزين نبعته المطبعة النهاردة"

نطقها الباشمهندس مصطفى بسرعة كالمعتاد وهو يضع أمامي ورقة صغيرة تحمل الأوردر الجديد.. كنت قد بدأت أشعر بالإرهاق ولكنني وجدت الأمر بسيطا إلى الحد الذي يجعله لا يستغرق اكثر من نصف الساعة.. التقطت الورقة وبدأت العمل مجيبا:

"أوك يا باشمهندس .. حالا"

كنت المصمم الوحيد في الشركة بعد أن انصرف زميلي أحمد وزميلتي سمر ولم يحضر زميلي الآخر باسم.. في الداخل بالقرب من المطبعة كان عمال الطباعة ينقلون الأوراق من مكان إلى آخر.. لم يتبق من العمال بعد انصراف الجميع سوى اثنان.. وكلاهما اسمهما أحمد.. وبالطبع انصرفت المسئولة عن استقبال العملاء منذ وقت مبكر..

انهمكت في تنفيذ الأوردر لمدة نصف ساعة تقريبا.. لم أكد أنتهي وأحفظ عملي حتى انقطع التيار الكهربي فجأة عن المكان.. حمدت الله على أنني حفظت العمل قبل قطع الكهرباء.. استمر الانقطاع دقائق قليلة ثم عادت الأضواء تغمر المكان.. نظرت في ساعتي فإذا بها قد دقت الحادية عشرة والنصف..

قررت أن أنصرف.. لم يكن هناك أي أوردرز أخرى لتنفيذها، والوقت تأخر وتركيزي انخفض إلى ما يقرب من الصفر.. سألت أحد الأحمدين عن المهندس مصطفى فأخبرني أنه يطبع بعض الكروت بالداخل.. وقفت أمام باب غرفته ثم طرقته في هدوء.. سمعت صوته من الداخل:

ايوا .. مين

أنا يا باشمهندس

فيه حاجة يا محمد؟

خلاص خلصت الأوردر.. تسمحلي أستأذن؟

طب معلش استناني دقايق يا محمد وطالع بعد إذنك

أوك

كنت مرهقا بشكل يفوق كل الأيام منذ التحقت بهذا العمل.. بالطبع لم تمر فترة طويلة على هذا فقد أكملت بالكاد يومي الحادي عشر على عملي هذا، ولكن هذا اليوم بلا شك كان أكثرهم إرهاقا..

ألقيت جسدي على أقرب مقعد وأغمضت عينيّ.. وجدت المهندس مصطفى يخرج إليّ ويقول:
نعم يا محمد؟

كنت بقول لحضرتك هستأذن

طيب اللوحة بتاعة مدرس الإنجليزي.. انت خلصتها خلاص ما ناقصش غير إنها تتبعت للمطبعة.. معلش ابعتها الأول

أومأت برأسي.. كان هذا يعني أنني سأضطر لتشغيل جميع أجهزة الشبكة وإرسال الملف عبرها.. استمر الأمر فترة طويلة أصابني الملل خلالها.. دائما ما يتوقف إرسال الملف بلا سبب عدة مرات.. نهضت في ضجر وقلت لنفسي:
كفاية كدة

راعني أن اشارت عقارب الساعة إلى الواحدة إلا الربع.. تركت المهندس مصطفى يتولى مسئولية هذا العطب الذي يمنع إرسال الملف وانصرفت.. انتظرت طويلا في الموقف الخاص بمكروباصات مدينة 15 مايو.. وفي النهاية وجدت مكانا خاليا في أحدهم وإن لم يكن سيذهب مباشرة إلى حيث مسكني وسأضطر للمسير قليلا بعد ذلك لكنني لم اهتم.. رغم أن المسير في مدينتي شتاء بعد الواحدة ليلا مجرد ضرب من الجنون حيث لا يوجد بشري واحد في الشوارع..

وطوال الطريق راحت الأفكار تتدفق في رأسي لتكون قرارا قويا وحازما..

تذكرت كيف أصررت على البحث عن عمل.. وكيف كان هذا الأمر يمثل لي أولوية كبيرة حتى أنني سألت أحد الزملاء عن العمل كمصمم فأرشدني إلى هذا المكان الذي أعمل فيه الآن.. وتذكرت كيف فهمت قواعد العمل واندمجت فيه بعد مرور أيام قليلة حتى صار جزءا كبيرا منه ملقى على عاتقي.. وتذكرت كيف لم أهتم إطلاقا بالناحية المادية حتى أنني لم اتساءل لحظة عن مرتبي حتى اخبرني به صاحب العمل ذات مرة.. لأن طموحاتي من العمل لم تكن مادية بل كانت إثبات لنفسي أنني يمكن أن أستقل بها وأن أتحرر ماديا وأكتسب خبرات من العمل والاحتكاك في الوقت نفسه، بل والأهم أن أستطيع التوفيق بين العمل ودراستي في كلية الطب!

ثم تذكرت كيف كان والدي معترضا بشدة على هذا الأمر وكيف حاول بكل الطرق إثنائي عنه لكنني كنت مصمما بشكل يفوق كل وصف.. تركني أخوض التجربة بنفسي.. وكنت سعيدا بها حتى بدأت المعالم السلبية تتضح بشكل لم أكن لأفهمه إلا إذا اندمجت مع حياة العمل..

هل كنت مخطئا عندما قررت أن أعمل - كمصمم جرافيك - وأدرس - بكلية الطب - في نفس الوقت؟؟

وفي أعماقي تردد هذا السؤال الذي سألني إياه أحد اقرب أصدقائي:
أيهما تفضل..
أن تبقى أثناء فترة دراستك تحت الرعاية المالية لأسرتك وأن يوجهوك - بالتالي - إلى ما يتوافق مع مصلحتك حتى وإن كانت وجهات نظرهم لا تتفق معك وحتى إنت كنت ترى مصلحتك في أشياء أخرى غير ما يريدون؟ فهم في النهاية لن يضروك إن لم يفيدوك
أم تفضل..
أن ترتبط اثناء دراستك بقواعد العمل والبيزنس الذي لا يرحم ، وأن تعمل مع من لا يرى فيك إلا محركا للإنتاج ولا يريد منك إلا ما يحقق مصلحته حتى وإن كان هذا يتعارض مع مصلحتك؟ حتى وإن كان شخصا محترما

ضربت زجاج المكروباص بيدي على نحو مسموع وملحوظ أثار دهشة من يجلسون بجواري خصوصا عندما ضغطت على شفتيّ باسناني.. صرخت في أعماقي:
ماذا دهاك هذه المرة؟!
أين مقاييس حكمك وتقديرك للأمور؟
لماذا اختلت على هذا النحو العنيف؟

كل هذا لأنك تريد أن تستقل بحياتك ماديا وتبتعد عن جو الدراسة والطلبة والتعليم ونظامه المعقد السخيف الذي لم تكره شيئا سواه؟
أنت في النهاية مرتبط به في كل الأحوال..

ثم ما أدراك أن زهوة المال وشهوة الاستقلال لن تجرفك إلى ما هو أسوأ وتهمل حياتك الحقيقية كطالب تماما كما حدث مع الكثيرين من قبلك.. حتى إن كنت تستنكر ذلك على نفسك الآن.. لا تقل لي أنك تضمن نفسك الأمارة بالسوء!

لم لا تصبر وتترك كل شيء على طبيعته.. ربما وجدت فرصة للعمل في فترة الأجازة الصيفية أفضل كثيرا من هذه..
ولكن ربما لا .. لماذا أترك فرصة كهذه تفلت من بين اصابعي بعد أن أصبحت ملكي.. فلتتحمل شهرا أو شهرين حتى تحجز لنفسك مكانا مميزا في العمل ثم فليكن ما يكون..

وهل تظن أن العمل الخاص يعترف بهذه الأمور؟ لو تغيبت يوما أو يومين سينقلب كل شيء وسيأتي من يحل محلك.. وبالتأكيد ستضطر إلى التغيب على الأقل في فترة الامتحانات.. أنت تقضي ثمانية ساعات كاملة في هذا العمل اللعين!

ولكن من يضمن لي فرصة كهذه في الأجازة الصيفية مثلا؟
وهل يتوقف العمل عند حد؟ العمل لا يتوقف ابدا.. ولكن دراستك لن تعوض.. ولو تعثرت فلن تعوضك كل أموال الدنيا..

(ارمي حمولك على ربنا يابني)..

ترددت هذه الكلمة بصوت أبي في عقلي فجعلتني أبتسم.. نعم.. لم تفكر في هذا السؤال؟.. إذا صدقت الله النية فسيوفقك في دراستك وسيوفقك في عمل مناسب إن شاء الله في وقت فراغك وأجازاتك.. هذا هو صوت المنطق..

ثم ما الذي يضمن لك أن تأخيرك في العمل حتى الثانية صباحا لن يحدث في أيام تكون أحوج ما تكون فيها إلى دقيقة واحدة تستعد فيها للامتحانات؟! اليس هذا واردا؟

شعرت برأسي قد تورمت فنزلت من المكروباص وأسرعت أسير وسط الشوارع الخالية تماما في هذا الوقت المتأخر والبرد القارص يحاول اختراق ثيابي الكثيفة لينفذ إلى عظامي.. وفي رأسي تفجر هذا السؤال كالقنبلة ألف مرة..

أليس هذا واردا أيها العبقري؟!

شعرت بالسخرية في أعماقي وتصاعدت هذه السخرية إلى شفتيّ فارتسمت عليهما ابتسامة مريرة.. أي عقل هذا الذي يستطيع تحمل ضغوط العمل المستمرة وضغوط الامتحانات خصوصا في الراوند القادم حيث يرتبط الحضور بالدرجات ولا مجال للتهاون؟! هل تظن نفسك سوبر مان؟

تذكرت أيضا كيف كنت واثقا وأنا أخبر أمي أنني بداية من الراوند القادم سأنهي يومي الدراسي في السيدة زينب لأتجه إلى عملي في حلوان مباشرة دون أن أتناول غدائي ودون أن أعود إلى المنزل.. وكنت بالفعل أنوي الاستمرار بهذا النظام الذي بغض النظر عما سيؤدي إليه من الانهيار الجسدي الحتمي فهو بالتأكيد لن يمنحني لحظة واحدة تصلح لمذاكرة دروسي..

شعرت بصوت الرياح تعلن لحظة الاستسلام للواقع واتخاذ القرار الحتمي الذي حاولت بكل قوتي تفاديه..

وشعرت بعيني ّ تتألقان وقلت لنفسي بصوت مسموع صبغته بكل حزم وقوة الكون:
كل شيء بوقته .. لا تتعجل .. كل شيء بوقته .. والله وحده أعلم بما سيحدث في مستقبلك .. وقد تنجح وتحقق ما لم تكن تحلم به في مجالات عديدة.. وقد لا تفعل أي شيء.. وقد تكون حياتك أقصر كثيرا من كل ذلك.. دع الأمور لله سبحانه وتعالى بالله عليك ولا تحمل نفسك من الأمر ما لا تطيق..

وفي اليوم التالي الذي هو اليوم ظهرا شعرت بقدر هائل من الارتياح عندما أخبرت زميلي أحمد هاتفيا بأنني قد تركت العمل للتركيز في دراستي.. وكانت ابتسامة أبي وسعادة أمي بانتهاء هذا الوضع فصل الختام.. مؤقتا..

الساعة الأولى بعد منتصف الليل من يوم 22/12/2010

لم أنتِ؟

لم أنتِ؟

لِمَ كل مرة.. في حركتي وسكوني.. في آهاتي وشجوني.. في فرحتي وسروري..
في كل لحظة وكل موقف.. في غربتي وحتى بين أهلي..

لم أنتِ؟

أحببتك حتى عشقت كل شيء تحبينه.. حتى تعلقت بكل ما أثار إعجابك ولو مرة..
أحببتك حتى رأيت الوجود جميلا بعينيكِ وسمعت صوت الحب وهمس الحنان بأذنيكِ..

لم أنتِ؟

كنت قبلكِ مشتتا يتشابه عندي القريب والبعيد.. العمل والفراغ..
لا هدف ولا طموح ولا وجود ولا رضا عن نفسي..

كيف غاليتي ما إن سكنتِ في قلبي حتى صرت شخصا لا ينام ولا يعرف كللا أو كسلا؟

لم أنتِ؟

هل لأنكِ تملكين بكلمة أن تبثي الحماس في العالم بأسره؟
أم لأنكِ تحبين بصدق وتعشقين بلا حدود؟

لم أنتِ؟

هل لأنكِ مختلفة عن كل من رأيت أم لأنني أراكِ نجمة من نجوم السماء؟
أم لأني أحبك بصدق وأعشق حتى النخاع؟

لم أنتِ؟

ولِمَ أسأل هذا السؤال؟! المهم أنكِ هنا .. من أجلي
المهم أنني لا أرى سواكِ.. ولا أعرف سوى حبكِ غاليتي

فلتقولها إذن.. رددها بكل ما تملك من صدق وإخلاص وعزيمة وإصرار..
ضعها أمامك في كل لحظة حتى تظل دائما رجلا يستحق أن يقولها..

@};- أحبـــــك
@};-

الختـــام .. ثـــورة

تحجرت الدموع في عينيّ كهل وقور وقف شامخا قويا يستقبل الجموع التي جاءت تلبية لواجب العزاء في ولده الحبيب، في حين وقف إلى جواره شابان يبدو عليهما الشحوب والحزن الشديد يستقبلان الناس معه، وارتفعت آيات من الذكر الحكيم تدوي لتشق ذلك السكون الذي خيم على المكان مع عدد لا نهائي من أقداح القهوة والشاي وأكواب المياه..

ووسط هذا الجو الكئيب تعلقت العيون بذلك الرجل الأشيب قوي الملامح والجسد، الذي يرتدي حلة سوداء أنيقة ويشق طريقه نحو الكهل مباشرة ويربت عليه قائلا في تعاطف:
البقاء لله وحده يا حاج محفوظ.

لم يكن أحد يعلم أن هذا الرجل الأشيب من أخطر رجال الدولة كلها، ولا أنه يحمل رتبة وزير ويعمل تحت قيادة السيد رئيس الجمهورية مباشرة، لأن طبيعة عمله تقتضي الخبرة والسرية وعلى قدر هائل من الأهمية، فهو مدير المخابرات العامة المصرية شخصيا..
أما هذا الكهل فهو والد جلال..

وفي صلابة شد الكهل على يديّ الرجل وأجاب:
الدوام لله

ابتسم الرجل وتابع:
لقد مات ابنك بطلا قوميا نحتسبه عند الله من الشهداء الأبرار، ولقد انتقل إلى مثواه الأخير ملفوفا بعلم مصر وشيع جنازته ما يزيد على العشرين ألفا.

قال الكهل بنفس الصلابة:
جزاكم الله خيرا.

ثم أخرج من جيبه ورقة مطوية أعطاها للأشيب متابعا:
هذه صورة.. وأنا أحتفظ بالأصل.. أرجو أن تقرأها.

هز الرجل رأسه إيجابا وهو يلتقط الورقة مجيبا:
سأفعل بإذن الله.

ثم انصرف بخطوات سريعة فتقدم الشابان نحو الكهل وقال أحدهما بصوت مختنق:
لقد كان جلال حبيبا إلى قلوبنا جميعا يا عمي محفوظ.

رفع الكهل عينيه إليه وأجاب:
أعلم هذا يا إبراهيم.

قال الشاب الآخر - الذي لم يكن سوى فهمي - في خفوت:
نسأل الله أن يلهمك الصبر.

وعاد الصمت يخيم على كل شيء حتى ختم القارئ تلاوته:
صــدق الله العظيـــم.

***

وقف مدير المخابرات ممشوق القوام أمام رجاله وقد وضع الورقة التي أخذها من الحاج محفوظ على البروجكتور لتظهر أمام الجميع بوضوح، وقال:
هذه هي الكلمات التي كتبها الشهيد جلال قبل أن يبدأ مهمته.. لم يكن يعلم أنه سيموت شهيدا ساجدا لله تعالى.. هذه الكلمات بمثابة مصباح ينير الطريق لكل من يهب حياته لخدمة دينه ووطنه.

وفي صوت قوي قرأ المدير:
بســــم الله الرحمـــــن الرحيــــــم
اسمي جلال محفوظ.. لم أهتم يوما بالكتابة عن نفسي ولم أكن أظن أني سأحتاج إلى هذا، فأنا شاب تقليدي يعيش نفس الظروف التي يعيشها الملايين من أمثاله.. لم يكن لي هدف أو طموح أو قدوة في الحياة لذا لم أهتم لا بالمذاكرة ولا بالبحث عن عمل ولا بتنمية مواهبي، ولكنني انشغلت عن كل هذا باللعب واللهو والجلوس على القهاوي بلا حساب.. ارتكبت الكثير من المعاصي والآثام.. كذبت، نافقت، رافقت عدة فتيات فكلما مللت من واحدة منهن أذهب إلى غيرها.. حتى في المرة الوحيدة التي تعلمت فيها شيئا ما عكفت على تعلم علم الاختراق والشبكات لأغراض سيئة أو حتى غير أخلاقية! .. نصحني أبي كثيرا وطويلا بالتوبة لكنني لم أستجب أبدا.. لذا فقد كنت نسخة من ملايين النسخ التي تعج بها مصر..

أقول - والحمد لله - أنني كنت كذلك، فاليوم عرفت طريقي وحددت هدفي وتوقفت عن كل ما يغضب الله، والتزمت بصلاتي وعبادتي، فأنا اليوم بكل تأكيد شخص مختلف تماما..
لم أكن أعلم أن الوقت الذي قضيته في احتراف علم الاختراق سيكون سببا في نقلي من ظلام التشتت إلى نور اليقين.. إنني أحمد الله في كل لحظة أن أرسل إليّ في الوقت المناسب من يوجه موهبتي إلى الاتجاه السليم ويعينني على نصرة ديني ووطني، فتركت تلقائيا كل ما هو سيء وتحولت إلى إنسان آخر..

غدا بإذن الله أعظم ايام حياتي.. سأواجه أعداء الله وأعداء مصر وسأستغل موهبتي في القضاء عليهم حتى لو كان هذا آخر ما أفعله في حياتي.. ولعل الله يغفر لي بذلك ما ارتكبته من آثام وأخطاء في الماضى.

ثم طوى المدير الورقة وقال في قوة وفخر:
ها هو ذا بطل جديد يسقط من أجل مصر.

طرق أحد الرجال باب المكتب ثم دفعه وأسرع يقدم تقريرا جديدا إلى المدير دون أن ينطق بحرف واحد، فأسرع المدير بدوره يلتهم التقرير بعينيه ثم هتف في دهشة:
سبحانك يا رب! هل تصدقون هذا؟!

أصغى إليه الجميع في ترقب وهو يتابع في انفعال:
لقد تم نشر خبر استشهاد جلال عبر الفيس بوك باعتباره بطلا قوميا ومعه شرح تفصيلي للدور الخفي الذي يقوم به الفيس بوك في تدمير الشباب العربي ومقتل هذا الشاب البطل على يد من يديرون هذا المخطط خوفا من انكشاف الأمر، وقد أثار الخبر موجات هائلة من الغضب العربي وقامت أكبر حركة مقاطعة لهذا الموقع العالمي في التاريخ كبدت أمريكا وأوروبا وغيرهما اضرارا فادحة فأسرعوا يغلقون كل المجموعات والصفحات المشتبه في كونها ضد الشباب العربي، على نحو جعل كبرى الصحف والمواقع العالمية تنقل ما يحدث إلى كل مكان، تحت عنوان مثير للغاية.

واستطرد في انفعال هائل هذه المرة:
ثورة على الفيس بوك.

وضرب سطح المكتب بقبضته في قوة وهو يتابع:
انظروا كيف أثر شاب واحد كل هذا التأثير على الملايين في كل مكان في العالم حتى بعد وفاته! من يتصور هذا؟!

وفي أعماق الجميع نما ذلك الشعور الجميل بالاعتزاز والفخر والاطمئنان..
كل الاطمئنان..
والخشوع..

زهرتــــان ، إهداء إلى كارمن - فراشة زرقا

زهرتان .. متفتحتان .. صديقتان .. في حديقة الدنيا الغنَّاء ..

أخبرتني إحداهما عندما جذبني بهاؤها وتألقها:
نحن زهرتان .. هي أنا وأنا هي ..

قلت في دهشة:
وهل من الممكن أن تحوي هذه الدنيا زهرة أخرى بنفس البهاء والتألق والرائحة المنعشة والألوان المتناسقة؟!

بلغت دهشتي ذروتها عندما كررت الزهرة:
هي أنا وأنا هي.. نحن متماثلتان ولا شيء مثلنا.

قلت:
إذن أيتها الزهرة .. أين أجد الزهرة الأخرى حتى أتأكد من كلامك؟

كررت بلا ملل:
هي انا وأنا هي.

أدركت أنها لن تخبرني فتركتها وانصرفت أسير في أرجاء الحديقة.. فواكه وورود وأشجار ونخيل.. عصافير تحلق وتطير.. كل شيء جميل..

قلت لنفسي بإعجاب شديد:
لا يمكن أن يكون لهذه الأشياء مثيل!

ولكن أنفي التقط نفس الرائحة المنعشة التي تنشرها الزهرة الأولى، فأسرعت أعدو مهتديا بالرائحة لعلي أصل إلى الزهرة الأخرى.. مررت بشلال من المياه الصافية.. عيون تتفجر جارية.. وإذا هي فجأة تقف هناك متحدية.. انقبض قلبي واندفعت نحوها صائحا:
لا اصدق نفسي! هل أنتِ حقا الزهرة الثانية؟!

قالت:
أنظر حولك تفهم كل شيء.. هي أنا وأنا هي.

أدركت فجأة ما تعنيه ونظرت حولي فإذا بي قد قطعت دائرة كبيرة في الحديقة ثم عدت من حيث أتيت.. لم تكن هناك أبدا زهرة ثانية!

نظرت إلى الزهرة في عتاب ثم سألتها:
لماذا تركتيني أبحث عن الزهرة الأخرى وأنتِ تعلمين أن لا وجود لها؟!

ابتسمت الزهرة ثم مالت بأوراقها الملونة نحوي وأجابت في حكمة وهدوء:
هي أنا وأنا هي.. فكر في كلماتي تعلم أننا لا ننفصل..
نحن روح واحدة في جسدين..
أنفاس تتردد من صدرين..
عقل يفكر في رأسين..
كلام يتردد على لسانين..

أنا هي .. وهي أنا !

*****

إهـــداء إلى:

كارمن ، فراشة زرقا

ثورة على الفيس بوك.. من هنا تأتي الثورة

(رجالنا مستعدون للهجوم فور تلقيهم الإشارة)..

قالها مدير المكتب الخاص بمدير المخابرات العامة المصرية في حزم، فاعتدل هذا الأخير وألقى نظرة على إحدى الساعات التي تزين جدار مكتبه ثم قال:
فلندعو الله أن تتم هذه الإشارة في الوقت المناسب يا رجل.

أومأ مدير المكتب برأسه وعلق في هدوء:
فلنأمل ذلك يا سيدي.. لقد اتخذ المقدم مدحت موقعه في ذلك المكان السري الذي حددته المنظمة، وفور أن يتم الاتصال بينه وبين المركز الرئيسي لها يبدأ عمل جلال، وسيكون عليه تعقب هذا المركز بكل مهاراته وقدراته من خلال حساب الفيس بوك الذي منحته إياه المنظمة نفسها، وفي حالات الطوارئ القصوى يمكنه بث الاشارة التحذيرية لنا، فنتدخل فورا وننقذهما في الوقت المناسب إن شاء الله.

هز مدير المخابرات رأسه ونهض من مقعده وهو يتنهد في عمق ثم قال:
هذه المهمة تعني الكثير في هذه الفترة الحرجة التي تمر بها مصر.. لا يمكن أن نسمح لجهة إرهابية حقيرة كهذه بالحصول على أسرارنا بهذه البساطة دون أن نتصدى لها ونعلمها درسا يمنعها من دس أنفها القذر في شئوننا مرة أخرى.

وارتسم على وجهه كل اهتمام الكون وهو يتساءل:
هل اتخذت كل الاجراءات اللازمة لتأمين جلال ومدحت؟

أجابه بسرعة:
بالتأكيد.. فور أن يتم تحديد مكان المنظمة ستتدخل قوات الجيش والشرطة والمخابرات في آن واحد فالأمر في منتهى الخطورة على المستوى السياسي والأمن الداخلي أيضا.. وسنبذل المستحيل لإخراجهما أحياء بإذن الله.

غمغم المدير:
على بركة الله.

***

جلس المقدم مدحت في هيئة جورج على كمبيوتر نقال حديث في مكان ما يتبع المنظمة الارهابية وقام بتنشيط حسابه في موقع ياهو ثم انتقل بسرعة إلى خطوات استقبال مؤتمر الفيديو، وقبل أن يضغط زر الموافقة النهائي وضع ملف تجسس صغير قام بتصميمه بنفسه داخل الملفات الرئيسية للويندوز، ثم وافق على عقد مؤتمر الفيديو الذي سيتلقى عن طريقه التعليمات الجديدة من تلك المنظمة..

وظهر على الشاشة ظل كبير لرجل بلا ملامح ضخم الجثة عريض المنكبين وانبعث صوت آلي يقول بإنجليزية جافة ودون مقدمات:
ينبغي أن تسجل هذه اللحظة في تاريخك فأنت تجلس وتتلقي تعليماتك مني شخصيا، تقديرا إمكاناتك.

كتم مدحت سخريته في أعماقه بصعوبة ثم رسم على وجهه أكبر قدر من الانبهار والابتهال وهو يقول متلعثما:
لا.. لا يمكنني تصديق هذا.. هل أتحدث إلى الزعيم شخصيا؟!

وفي اللحظة نفسها كان جلال يعمل عبر كمبيوتر نقال آخر في مكان قريب يتبع المنظمة أيضا ويحاول اختراق موقع المحادثة عن طريق ملف التجسس الذي زرعه مدحت..
ولكن الأمر كان صعبا وشديد الخطورة بالفعل..
كل لحظة تمر كانت تهدد بفشل العملية كلها، حيث يتابع خبراء المنظمة هذا اللقاء المؤمن ويمنعون كل محاولات الاختراق..
كان سباقا رهيبا ومنافسة مشتعلة بين عقول أجنبية جبارة وعقل مصري واحد تعلم كل شيء ذاتيا..
وكان لا بد أن ينكشف كل شيء في لحظة ما مهما بلغت مهارة جلال..

وفي لحظة واحدة وبمهارة شديدة، أرسل جلال رسالتين إلى المخابرات المصرية تحذر إحداهما من أن المنظمة قد كشفت الأمر وتحمل الأخرى مكان مقر المنظمة تفصيليا..
وكان هذا يعني أن المهمة قد نجحت وفشلت في نفس الوقت..

وهناك في مؤتمر الفيديو حيث يجلس مدحت أعلن الكمبيوتر حالة الاستنفار العام وأطلق جهاز الإنذار وأوقف كل النشاطات، فصرخ الرجل الغارق في الظلام:
خيانة.. إنك..

وبرد فعل سريع قفز مدحت جانبا وهو يتدحرج على الأرض، وتحركت قوات الجيش تلقي بفرق الكوماندوز حول مقر المنظمة، في حين تحرك رجال المخابرات المصرية بسرعة البرق لإنقاذ مدحت وجلال..
واشتعل الموقف كله، وأصبحت كل لحظة لها ثمنها..
كل لحظة..

***

لم يكن أمام جلال أي أمل..
هو وحده، لا يستطيع القتال، يجلس داخل حجرة مغلقة بلا نوافذ، وقد تم غلق الكمبيوتر تلقائيا فور أن انكشف أمره فأصبح سجينا وسمع صوت رجال المنظمة يندفعون إليه من كل جانب..
ولكن العجيب أنه لم يشعر إلا بسعادة غامرة..
كل ما يشغله أنه نجح..
غريبة هي تلك الطاقة التي تندفع في عروق كل مصري وعربي ومسلم حينما يتعلق الأمر بوطنه!

وبكل قوته قفز خلال يحتمي خلف بعض الأثاث وهو يصرخ:
اقتلوني إن شئتم.. لم يعد يهمني أي شيء.

انهالت الرصاصات كالمطر تحطم كل شيء في طريقها إليه، وسمع اصوات تبادل إطلاق نار عنيف بل وانفجارات عنيفة على نطاق محدود ثم صرخات متواصلة تحمل قدرا هائلا من الألم والغضب، فانتابته رغبة قوية في أن يشكر الله على نعمة الشهادة، وتجاهل فجأة كل ما حوله وسجد على الأرض في خشوع، وهو يقول في اطمئنان عجيب:
الحمد لله

وهناك، كان مدحت يحاول الاحتماء باي شيء وهو يلعن هذه المهمة التي اضطرته للحضور وحيدا دون سلاح، وتمدد أرضا وزحف صارخا:
كم أفتقد مسدسي العزيز!

سمع دوي الرصاصات يحيط به من كل جانب ثم تحطمت بعض النوافذ وسمع صوت أزيز يشق الهواء فوق رأسه ثم لمح حبلا قويا يتدلى أمامه وسمع صوتا يصرخ:
تشبث وتسلق بسرعة.

وفي خفة، قفز مدحت يتعلق بالحبل وشعر برصاصة تخترق ساقه لكنه تجاهلها وقفز عبر النافذة إلى الخارج ليستقبله رجلان من المخابرات المصرية أسرعا يبتعدان عن المكان..

وعندما هدأ كل شيء كانت هناك علامات استفهام تملأ عقول الجميع..
كل العقول..

ثورة على الفيس بوك.. واشتعلت الثورة

اعتبارا من هذا الفصل، لن يقص جلال بنفسه الأحداث التي يمر بها بل سيتم وصف الأحداث من وجهة نظر خارجية
حفاظا على تماسك القصة وحرصا على هدفها النهائي
****


أعلنت عقارب الساعة تمام الثالثة بعد منتصف الليل في مدينة العاشر من رمضان، وأطبق الهدوء والسكينة على كل شيء في تلك الليلة شديدة البرودة من شهر ديسمبر، حينما تحركت سيارة كبيرة خارج الشوارع الرئيسية وأضاءت مصباحيها الأماميين ثم أطفأتهما عدة مرات بتتابع معين، فتحركت سيارة أخرى نحوها حتى توقفت بجوارها تماما قبل أن ينزل منها شاب طويل انتقل بسرعة إلى السيارة الأخرى وجلس على مقعدها الخلفي، فقال له السائق بإنجليزية خشنة:
لا تتحرك .. ولا تصدر أي صوت

تسمر الشاب على مقعده في حين صعد عن يمينه وعن يساره رجلان ضخما الجثة مفتولي العضلات عصبا عينيه ليمنعاه من الرؤية..
ولنصف ساعة، تحركت السيارة عائدة إلى الشارع الرئيسي قبل ان تتوقف أمام فيلا كبيرة ويخرج الرجلان وهما يدفعان أمامها الشاب معصوب العينين حتى وصلا إلى الردهة فقاما بتفتيشه في قسوة ثم تركاه وانصرفا بلا مبالاه تامة..

مرت دقيقة ثم ظهر رجل آخر من داخل الفيلا تقدم نحو الشاب ثم نزع العصابة عن عينيه وجلس فوق مقعد جانبي في تحفز..
كان التوتر يحيط بالموقف كله فلم ينطق الشاب بحرف واحد حتى هبط إليه من الطابق العلوي رجل أشقر الشعر أزرق العينين شديد الأناقة، جلس أمام الشاب وهو يقول بإنجليزية صارمة:
مرحبا يا جلال في فيلتي المتواضعة.. أرجو أن تروق لك.

هز جلال كتفيه وقال بشيء من الحذر:
لم أفهم لِمَ كل هذه الاحتياطات يا سيدي.. لو أنك بالفعل مستر "صمويل" الذي تحدث إليّ عبر الإنترنت وأقنعني بالانضمام إليكم.. لقد أتيت إليكم بملء إرادتي مقابل ..

قاطعه الرجل في صرامة:
لا تشغل عقلك العبقري بهذا أيها الشاب.. نحن نفكر وأنت تنفذ.. تنفذ فقط.

هز جلال رأسه مجيبا في توتر:
فليكن

ساد الصمت لحظات أشغل خلالها الرجل سيجارا نفاذ الرائحة، نفث دخانه في قوة قبل أن يتابع:
صديقك جورج انضم إلينا بالفعل وهو الآن في مكان آخر يعمل تحت سمعنا وبصرنا كما ستفعل أنت هنا تماما.. ستأتي في أوقات محددة ثم تعود لتمارس حياتك بشكل طبيعي تماما.. لا أريد أن يشعر أحد بما تفعله هنا ولا أقبل أي اخطاء.. هل تفهم؟

عاد جلال يهز رأسه مجيبا في قوة:
بالتأكيد يا سيدي.

ولكن قلبه كان يدق بمنتهى العنف ، فقد حانت لحظة الخطر..

***

جلس جلال أمام الكمبيوتر بمنزله في وقت متأخر من الليل ليرسل الإشارة المتفق عليها مع المنظمة عبر حساب معين على الفيس بوك ثم أخذ يتابع تلك الإشارات الغامضة التي يتبادلها أعضاء المجموعة الإرهابية على جدار الجروب، ويتابع بعض العرب الذين تذمروا من كثرة الكلمات الغير مفهومة.. ولكنه كان يلتزم الصمت تماما..

وفجأة، وصلته رسالة من الحساب الرئيسي للتنظيم الإرهابي تحمل عنوان (هام جدا)، ففتحها بسرعة وقرأها في لهفة ثم اتسعت عيناه عن آخرهما في ذعر حقيقي وشهق هاتفا:
- يا إلهي! ماذا أفعل الآن؟!

كانت المخابرات المصرية قد حددت معه موعدا معينا للقائه بالمقدم "مدحت" الذي ينتحل شخصية جورج بأسلوب شديد التعقيد، والاتصال قبل ذلك الموعد يعد ضربا من الجنون، لذا فقد غرق في التفكير لحظات ثم تألقت عيناه وأسرعت أصابعه تعمل على لوحة المفاتيح بمنتهى المهارة والسرعة..

***

(لقد تلقينا رسالة شفرية عاجلة من جلال عبر المجموعة الشفرية المؤقتة)..

هتف العقيد "أيمن" بهذه العبارة وهو يندفع إلى مكتب المدير المسئول عن متابعة العملية داخل مبنى المخابرات العامة المصرية بكوبري القبة، فقال هذا الأخير في قلق:
كان عليه ألا يستخدم هذا الأسلوب إلا كحل أخير في حالات الضرورة القصوى.

وضع الرجل أمامه ورقة كبيرة وهو يقول في توتر شديد:
أعتقد أن ما يحمله يستحق بجدارة كلمة الضرورة القصوى.

وكان يعني ما يقول..

***

(مخطط غربي إرهابي قذر)..

قالها مدير المخابرات العامة المصرية إلى رجاله بلهجة تقريرية حازمة وهو يدير عينيه بين وجوههم ويتحرك في المكان جيئة وذهابا كذئب جريح، ثم تابع:
الفيس بوك هذا لم يعد مجرد موقع إلكتروني.. لقد صار مخططا شيطانيا لكشف عاداتنا وتقاليدنا وهويتنا وبث كل الأفكار السامة الهدامة بين أبنائنا.. كل هذا كنا نعلمه ونحاول السيطرة عليه، ولكن الأمر لم يتوقف على هذا.

ثم توقف مكانه وهو يتابع في غضب مكبوت:
هذه الرسالة التي تلقاها جلال تعني أن هذا الكيان أخطر بكثير مما نتصور، فهو لا يمارس الإرهاب بصورته التقليدية ولكنه يسخر العقول وهذا أكثر خطورة من التفجير والقتل والتدمير.

علق أحد الرجال:
الأمر الذي تلقاه منهم المقدم مدحت يشبه كثيرا ما تلقاه جلال فهم يطلبون منه بما يتمتع به من لباقة ووسامة وإجادة تامة للإنجليزية أن يندس وسط الشباب العربي ويجذبهم نحو التقاليد الغربية القذرة ويقتل أخلاقهم ويطعن في تقاليدنا وديننا، ثم ينقل للمنظمة ردود أفعالهم حرفيا حتى يقوموا بتكوين ملف كامل عبارة عن خطة طويلة المدى لمحونا من على وجه الأرض.

أكمل رجل آخر:
عنوان الملف نفسه مستفز بشدة .. (الطريق إلى سيادة العرب .. من الفرات إلى النيل).

وقال رجل ثالث:
هؤلاء الأوغاد تنبهوا أن تحقيق هدفهم القذر لن يحدث أبدا بالعنف فلجئوا إلى تدمير مجتمعنا من الداخل.. لذلك طلبوا من جلال أن يستغل موهبته الفائقة في الاختراق والتتبع ليخترق حسابات شخصيات عربية مرموقة، ولو تم هذا الأمر بشكل مركز فستكون كل كلمة نتبادلها عبر هذا الموقع اللعين سلاحا يطعنون به أبناءنا.

استمع المدير إليهم جميعا، ثم قال بكل صرامة وحزم الدنيا:
لن نسمح لمهزلة كهذه أن تحدث.. عندما تحين ساعة الصفر ستتغير كل الأمور بإذن الله.

ولم يكن يعلم أنه على حق تماما، فالأمور بالفعل ستتغير..
بل ستنقلب رأسا على عقب..
وبمنتهى العنف..

ثورة على الفيس بوك.. رياح الثورة

مرت لحظات من الصمت بعد أن نطق الشاب بهذه الكلمة الأخيرة، انهار خلالها جورج تماما وأخذ يبكي وينتحب ويشهق كالطفل الذي انكسرت لعبته في حين تبادلت مع إبراهيم وفهمي نظرات صامتة تمتلئ بالقلق والتوتر..
ولكن الشاب حافظ على ابتسامته وهو يخرج من السيارة قائلا بلهجة آمرة:
- اتبعوني.

ولم يكن أمامنا سوى هذا، فسيارة الشرطة توقفت خلفنا مباشرة يراقب رجالها ما يحدث وأي محاولة للهروب من الموقف قد تزيد الطين بلة دون أي فائدة.. هذا هو ما دار في رأسي حينما وجدت الشاب يلتفت إليّ ويمنحني ابتسامة غامضة وكأنه قرأ ما أفكر فيه.. استسلمنا تماما ونحن نسير خلف الشاب ودلفنا إلى المبنى فانقبضت قلوبنا في عنف.. كان شديد الهدوء والبساطة والغموض أيضا على نحو جعلني أتساءل: هل هذا المبنى بالفعل يخص المخابرات المصرية ثالث أقوى أجهزة المخابرات في العالم؟!

مر الوقت بطيئا حتى وصلنا إلى حجرة كبيرة يجلس في مقدمتها رجل أشيب وقور خلف مكتب كبير، ويتطلع إلينا في صمت بنظرات فاحصة.. جلس الشاب أمامه ثم أشار إلينا بالجلوس وهو يقول للأشيب:
- جلال.. إبراهيم.. فهمي.. وهذا هو جورج يا سيدي.

ابتسم الأشيب وهو يُخرج ورقة كبيرة من درج مكتبه ويقرأها أمامنا في هدوء:
- جلال محفوظ.. طالب بكلية الحقوق جامعة القاهرة.. شديد المهارة في استخدام الكمبيوتر والانترنت.. وبالذات برامج التصميم كالفوتوشوب.. محترف في استخدام الشبكات الاجتماعية ونشر الأفكار الدعائية المختلفة وبالذات الفيس بوك.

قال الكلمة الأخيرة وهو يرمق جورج بنظرة غامضة فغاص هذا الأخير في مقعده وشحب وجهه كالموتى وقد توقف عن البكاء، في حين تابع الأشيب بنفس اللهجة:
- أما هذا فهو (فهمي أبو الفتوح).. طالب ...

استمر الرجل يقرأ في الورقة حتى وصل إلى نقطة معينة فعاد ينظر إلى جورج وتابع:
- (جورج ميلاد).. طالب متفوق بكلية الألسن جامعة القاهرة.. والمسئول عن الترجمة في ذلك الجروب الفكاهي الذي أنشأتموه سويا.. والذي استغل موقعه هذا في بعض الأمور التي لم نكن نتوقعها من شاب مصري مخلص مثله.

صاح جورج في انهيار:
- حسنا.. حسنا.. سأخبركم بكل شيء.. سأخبركم بكل شيء.

أزاح الأشيب الورقة وأنصت في اهتمام، فحاول جورج أن يتمالك نفسه ليتحدث وانتبه الشاب الذي يجلس معنا بكل حواسه، فقال جورج وهو يلوح بذراعيه في انفعال وتوتر:
- القصة من البداية رسالة انجليزية وصلتني من فتاة أمريكية تدعى (ميشيل كونواتشي).. أخبرتني فيها أنها معجبة بنشاط الجروب ومهتمة بالانضمام إليه وستدعو كل أصدقائها للانضمام فرحبت بذلك وأجبتها برسالة ترحيبية بسيطة.. في اليوم التالي أرسلت لي وقالت أنك تبدو المسيحي الوحيد في إدارة هذا الجروب لذلك فأنا أريد أن أستخدم الجروب في نشر مبادئ الديانة المسيحية باللغة الإنجليزية دون أن يتعارض هذا مع نشر مبادئ الإسلام باللغة العربية التي اهتم بها جلال.. كنت أشعر بالغيرة لأن الجروب صار إسلاميا صرفا.. حتى النشاط الفكاهي قل على نحو ملحوظ.. فوجدت في هذا فرصة لإضافة طابع جديد إلى الجروب وأرسلت إليها الموافقة مع رسالة تؤكد أنني أنا الوحيد المسئول عن النشاط الأجنبي في الجروب.. بعدها بأيام وجدتها ترسل لي طلب صداقة مع طلب لمعرفة بريدي الإلكتروني في أحد البنوك الإلكترونية لكي ترسل لي مبلغا بسيطا كعربون صداقة.. ظننت أنها تمزح لكنني أرسلت لها الإيميل بالفعل وأضفتها في برنامج المحادثة المباشرة.. وفوجئت بعدها برصيدي في بنك ألرت باي الإلكتروني يرتفع إلى 500 دولارا، اي ما يعادل تقريبا 2500 جنيه مصري! كل هذا لأنني سمحت لها بنشر ما تريد على الجروب!

قال الأشيب في صرامة غاضبة:
- ألم تفكر لحظة واحدة لماذا تهتم الفتاة بمنحك كل هذا المبلغ مقابل أمر تافه كهذا؟!

صاح جورج:
- كان الأمر كله لا يدعو للشك، فقد كانت تنشر بالفعل جمل مقدسة من الإنجيل أو حكم مسيحية بسيطة، حتى بدأت في نشر تلك الرموز.. رموز لم افهمها مطلقا، فأرسلت إليها كي أستفهم عن معناها وأجابتني ببساطة: لا تقلق سيكون كل شيء على ما يرام.

ارتسمت ابتسامة صفراء على شفتيّ الأشيب وهو يقول:
- بل قل أنها أرسلت لك صورتها ومعها بعض العبارات الرقيقة، مثل: لا تقلق يا عزيزي، أو مجموعة من الورود ومعها كلمة واحدة.

ومال نحوه مضيفا في صرامة مباغتة:
- أحبك.. أليس كذلك؟!

لم ينجح جورج في ابتلاع ريقه وهو يغمغم في عصبية:
- أنتم تعلمون كل شيء إذن!

التقط الأشيب ورقة أخرى من درج مكتبه وقال:
- ربما نعلم أكثر مما تتصور يا جورج.. (ميرا إيتان) فتاة إسرائيلية انضمت إلى تنظيم إرهابي جديد منذ فترة قصيرة، انتحلت خلالها أربعة شخصيات بأربعة جنسيات مختلفة، آخرهم شخصية الفتاة الأمريكية الفاتنة (ميشيل كونواتشي) التي كنت تتحدث معها يا جورج.

اتسعت عينا جورج في ارتياع ورعب رهيب هذه المرة فأضاف الأشيب:
- أما هذه الرموز فهي عبارة عن إشارات لتنفيذ عمليات إرهابية.. داخل مصر.

***

جلس فهمي مع إبراهيم في ركن منزلي يتحدثان في همس وهما ينظران إلى جورج الذي يجلس أمام شاشة الكمبيوتر وأنا أجلس بجواره أتابع ما يفعله في اهتمام، وقال فهمي متوترا:
- هل تظن أن الأمور ستمر بسلام؟

ضغط إبراهيم يده وهو يقول في حسم:
- اطمئن يا صديقي.. إنني لم أر أحدا أكثر دقة ومهارة من هؤلاء الرجال.. هذا الشاب انتحل شخصية جورج حتى أنني ظننته جورج الحقيقي.. لن ينتبه أحد إلى أن هذا الشاب ليس جورج، ولن يتخيل أحد أن جلال الضعيف في اللغة الإنجليزية سيتحدث كالأمريكان تماما خلال أسبوع واحد من خلال هذا الكورس التدريبي المكثف على يد أفضل الأساتذة والمتخصصين.

تساءل فهمي في قلق:
- وهل تظن أن هذه المنظمة الإرهابية لن تنتبه إلى حقيقته حينما نستدرجها لتجنيده؟

هز إبراهيم كتفيه وغمغم:
- أتعشم ألا يحدث هذا، فجلال شديد الذكاء والمهارة وهو الأجدر للقيام بهذه المهمة.

وتألقت عيناه مضيفا:
- لقد اقسمنا جميعا على بذل كل غال ورخيص حتى ننجح بإذن الله.. من أجل مصر.

***

تعلقت عيناي بأصابع جورج وهو يعمل بمهارة فائقة على الكمبيوتر ويتابع الجروب في نشاط وقلت له هامسا:
- هل تشرب فنجانا من القهوة يا سيادة المقد...

قاطعني بسرعة:
- أطبق فمك يا فتى.. أنا جورج.. إياك أن تنسى هذا.

ابتلعت ريقي ثم كررت:
- هل أعد لك فنجانا من القهوة؟

ابتسم في هدوء وقال:
- شكرا.. لا داعي.

كان يراجع الرسائل التي دارت بين جورج وميشيل في سرعة ودقة ثم بدأ يرسل لها رسالة جديدة بالإنجليزية، فقلت له في قلق:
- هل تظن أنها لن تكشف أمرك؟

هز رأسه وأجاب:
- محال.. لن تكشف شيئا بإذن الله.

مرت دقائق طويلة من الصمت حتى أرسلت ميشيل ردا على الرسالة، ففتحه جورج في سرعة وقرأه في اهتمام ثم ابتسم في ظفر، فسألته في لهفة دون أن أنتبه هذه المرة إلى أنني أستخدم لقبه الرسمي:
- ماذا حدث يا سيادة المقدم؟

تراجع في مقعده واتسعت ابتسامته في ارتياح ثم أجاب:
- إنهم يريدونني أن أقوم بالإشراف على الصفقة التالية.. وسنوقع بهم بإذن الله.

ثم التفت إليّ وربت على كتفيّ قائلا في ثقة:
- وبعد أسبوع واحد ستكون أنت ورقتنا الرابحة في قلب هذه المنظمة يا جلال.

وانقبض قلبي بين ضلوعي بمنتهى العنف.. والفزع..

ثورة على الفيس بوك .. وبدأت الثورة

مرت الأيام بسرعة وكنت في حالة دائمة من الاستقرار النفسي والهدوء، وتحسنت علاقتي دائمة التوتر بيني وبين أبي، وأصبح الجروب مع الوقت من أكبر الجروبات الفكاهية متعددة الأنشطة على الفيس بوك وتجاوز عدد أعضائه مئات الآلاف من المصريين والعرب والأجانب فبدأنا نستخدمه لأغراض دعائية ودعوية مختلفة..
ولكن الأمور انقلبت كلها فجأة رأسا على عقب..

كنت في المنزل أقرأ من مصحفي الصغير الذي لا أتركه أينما ذهبت حينما سمعت صوت سيارة تتوقف أمام المنزل وهي تطلق صريرا مزعجا.. لم أهتم وواصلت القراءة لكنني سمعت صوت أقدام ثقيلة وقوية تتجه نحو باب الشقة ثم ارتفعت الطرقات والخبطات تدوي على الباب في قوة.. لم يكن هناك أحد في المنزل سواي.. أوقفت القراءة ونهضت أفتح الباب في توتر..

فوجئت برجال الشرطة يندفعون داخل المنزل في صرامة ويدفعونني في شيء من الغلظة حتى أفسح الطريق أمام أكبرهم رتبة الذي اتجه نحوي وهو يرمقني بنظرة شديدة القوة والقسوة.. كان يرفع عينيه ويخفضهما ليفحص كل سنتيمتر من جسدي ثم قال:
- هل أنت ذلك المدعو (جلال)؟

لاحظت تلك اللهجة التي تحمل الكثير من الاستهتار والاستخفاف لكنني تجاهلتها ونصبت هامتي وأنا أجيب:
- نعم، هو أنا.. ماذا تريديون؟

لم يجيبني الرجل بل أشار إلى رجاله بتفتيش المنزل فاندفعوا إلى كل مكان يقلبونه رأسا على عقب مما جعلني أصيح في غضب:
- ماذا تفعلون؟ هل تحمل إذنا بالتفتيش؟

عقد الرجل ساعديه أمام صدره وهو يقول:
- سينتهى الأمر خلال دقائق معدودة.

لم تكد تمر خمس دقائق حتى عاد الرجال إلى الردهة حيث يقف قائدهم وأعلن كل منهم أنه لم يعثر على ما يثير الشكوك، فالتفت إليّ القائد وقال في شيء من السخرية:
- أعتقد أنه يحق لك أن تعلم لم نحن هنا بالظبط يا جلال.

لم أرد فقادني الرجل إلى غرفتي حيث أشار إلى جهاز الكمبيوتر وسأل في صرامة:
- من يستخدم هذا الجهاز يا فتى؟

أجبته في برود:
- أنا وأصدقائي، فهمي وإبراهيم وجورج.

تألقت عينا الرجل في شدة وهو يردد:
- أصدقاؤك؟

وبسرعة أشار الرجل إلى رجاله وهو يهتف بلهجة آمرة:
- ألقوا القبض على الثلاثة والحقوا بنا حيث سنذهب بهذا الفتى.

قال الكلمة الأخيرة وهو يبتسم لي ابتسامة صفراء فلم أستطع منع الحيرة والترقب من الظهور على ملامح وجهي وقلت في حذر:
- ماذا ستفعل بالضبط؟

ولكن الرجال أحاطوا بي من كل جانب ودفعوني إلى خارج الشقة والرجل يجيبني في شماتة واضحة:
- ستعلم كل شيء في قسم الشرطة.

كنت في حالة من الذهول والغضب حينما دفعني رجال الشرطة داخل سيارتهم وخرج جميع من في الحي الذي أسكن فيه يراقبون ما يحدث في دهشة وهم يتساءلون عن الجرم الذي ارتكبته هل جريمة قتل أم سرقة أم عملية إرهابية ؟!

وكانت فضيحة جعلتني أكاد أبكي من فرط القهر والغضب وسؤال واحد يتردد في أعماقي بكل ألم الدنيا..

هل سيتحمل أبي وقع الصدمة عندما يعلم ما حدث؟ هل ؟!

***

(أنا لا أفهم شيئا)

كانت هذه هي الجملة الوحيدة التي نجحت في تجاوز شفتيّ وأنا أقف أمام ضابط الشرطة مع فهمي وإبراهيم وجورج، والأخير بالذات يرتجف في رعب وفزع، فقال الضابط في صرامة تحمل شيئا من الوقاحة والغلظة:
- أنتما متهمان بالتآمر على مصر والرشوة مقابل تخريب أمنها الداخلي.

كانت الكلمات تفجر داخلي قنابل من الذهول والغضب حتى أنني صرخت دون أن أشعر:
- أي سخافة هذه؟ بل أي حماقة؟

فوجئت برجل شرطة ضخم يكبل حركتي من الخلف وآخر يندفع نحوي ويهوي على معدتي بلكمة قوية فشهقت في ألم وحاولت أن أنحني لكن الرجل نفسه قبض على عنقي بكل عنف الدنيا ليمنعني من الانحناء..

وبكل الصرامة والقسوة تراجع الضابط في مقعده وقال:
- يبدو أنك لا تفهم يا هذا.. أنتما متهمان بالخيانة وينتظركما حكم بالإعدام إذا تأكدنا من هذه التهمة.. وهي مسألة وقت فحسب.

ثم رمقني بنظرة صامتة تحمل كل مقت وغضب الدنيا وهو يضيف:
- وسأكون سعيدا حينما نلقي القاذورات من أمثالكم في صحيفة القمامة.

لم أستطع أن أرد الإهانة.. بل لم أستطع أن أفكر.. كنت ذاهلا بلا حدود وأشعر أن الدنيا كلها تدور من حولي.. أي خيانة؟ ما الذي يحدث هنا بالضبط؟
وهنا لاحظت جورج وقد انهار وبدأ يبكي في مرارة ويرتجف جسده في شدة.. وأصبحت واثقا أنه هو الوحيد الذي يفهم ما يحدث ويعرف السبب تماما.. وتذكرت في وضوح تلك الرموز التي ملأت الجروب في كل مكان والتي أصر جورج أنها مجرد عبارات ترحيبية لا تعني شيئا.. إنه يخفي شيئا ما حتما ولم يخبرني عنه.. هذا الحقير! سينتهي بنا الأمر إلى حبل المشنقة بسببه !

لم تكد أفكاري تصل إلى هذه النقطة حتى دلف إلى المكان شاب وقور وسيم يرتدي بدلة كاملة وابتسم لنا في هدوء وبساطة.. بدا مختلفا تمام الاختلاف وهو يتطلع إلينا في زيه المدني الذي يختلف عن الأزياء العسكرية التي تحيط به.. حتى طريقته في التحدث إلى من حوله كانت مختلفة..

جلس الرجل أمام الضابط وقال في هدوء:
- أعتقد أن دوركم قد انتهى عند هذا الحد أيها النقيب.

هز الضابط كتفيه وقال بلا مبالاه:
- هذا شأنكم.. ولكن ستصطحبكم سيارة شرطة حتى نتأكد من بقاء المتهمين تحت أعيننا طوال الوقت.. تذكر أنها لا تزال قضيتنا حتى يصبحوا بين أيديكم.

نهض الرجل وابتسم قائلا:
- لا بأس.

اتجه الرجل إلى الخارج ودفعنا رجال الشرطة خلفه حتى ركبنا معه في نفس السيارة التي انطلق بها في سرعة وجلسنا في المقعد الخلفي في حين انطلقت سيارة من سيارات الشرطة خلفنا تراقبنا طوال الوقت..

وبكل حذري وتوتري وانفعالي تساءلت وأنا أتطلع إلى الرجل في المقعد الأمامي:
- أين تذهب بنا؟

منحني الرجل ابتسامة بدت واضحة في مرآه السيارة الداخلية وأجاب:
- ستعلم كل شيء في حينه يا جلال.

لهجته الهادئة وبساطته واستخدامه لاسمي مجردا من أي ألقاب جعلني أشعر بشيء من الاطمئنان فنظرت إلى جورج الذي يجلس بجواري ولم يتوقف عن النحيب والبكاء لحظة واحدة وقلت له في غضب:
- ماذا فعلت أيها التعس؟!
ولم يرد جورج بحرف واحد..

وبعد نصف الساعة دخلت السيارة حي كوبري القبة واتجهت نحو منطقة بعيدة عن العمران نسبيا ثم توقفت أمام مبنى كبير يحمل أعلاه شعارا لنسر يأكل ثعبانا قصيرا.. لم أفهم معنى هذا الشعار ولكن جورج شهق في قوة وهتف في ارتياع:
- يا إلهي! يا إلهي!

صحت فيه:
- ما الذي أثار فزعك إلى هذا الحد؟!

لم يستطع أن يرد بحرف واحد وشحب وجهه حتى صار كالموتى فالتفت الرجل إلينا وأجابني في هدوء واثق:
- يبدو أنه تعرف على الشعار.

ثم أضاف بلهجة غامضة:
- شعار مبنى المخابرات العامة المصرية.

وهنا، غاص قلبي بين قدميّ..
وبمنتهى العنف..

ثورة على الفيس بوك.. جذور الثورة

في اليوم التالي استغرقت في النوم طول النهار ولم يحاول أحد إزعاجي حتى استيقظت مع غروب الشمس وتثاءبت في عمق وأنا أتجه إلى الحمام وغسلت وجهي وغمرت رأسي بالمياه حتى صار شعري يقطر الماء على ما حولي وعدت إلى غرفتي بهذا الشكل فوجدت أبي جالسا داخلها.. بادرته قائلا:
- صباح الخير يا أبي.

حاول أن يبتسم وهو يجيب:
- تقصد مساء الخير يا جلال.

ضحكت في توتر ويدي تسرع لتشغيل جهاز الكمبيوتر، ثم جلست أمام الشاشة وأنا أجيب:
- اعتبرني قد قلت كل ما يروق لك.

أدرك أبي أنني أحاول التهرب من أي مناقشة بيني وبينه، فكثيرا ما ينتهي حوارنا بالغضب أو التوتر أو الانفعال أو قد يتطور إلى أن يشمل المنزل بأكمله فنظل أياما لا نتحدث إلى بعضنا البعض بسبب سوء حالتنا النفسية.. كل هذا لأن حوار واحد بسيط قد بدأ بيني وبين أبي.. عادة ما يكون هادئا في البداية.. ثم يلتهب بسرعة.. وينتهي بانفجار هائل ينسف الاطمئنان من المنزل نسفا..

كنت قد اعتدت هذا السيناريو بسبب كثرة حدوثه فقررت الصمت تماما.. شعر أبي بالملل بعدها بدقائق فانصرف من الحجرة وهو يتنهد في عمق.. انتظرت دقيقة ثم أسرعت أغلق الباب خلفه وجلست وحيدا في غرفتي أمام شاشة الكمبيوتر.. بدأت جلستي كما اعتدت دوما بتصفح موقع الفيس بوك المحبب إليّ.. وقررت أن ألقي نظرة على الجروب الذي أنشأته مع إبراهيم وفهمي وأنا أقول لنفسي في سخرية:
- هل تراهن يا جلال أن الجروب لا يزال خاويا على عروشه؟

رسمت ابتسامة واسعة على شفتيّ وأنا أتخيل وجه إبراهيم حينما أخبره أن فكرته لم تنجح وأنا أضغط على رابط الجروب لفتحه..
وانتفض جسدي من فرط المفاجأة..
350 !

هل أهذي؟!

دققت النظر في عدد أعضاء الجروب مرة أخرى وأنا أقول لنفسي في ذهول:
- هل حقا بلغ عدد الأعضاء 350 شخص في أقل من 24 ساعة ؟!

ولكي أتأكد أن نظري ما زال سليما ضغطت على الزر الذي يتيح لي رؤية جميع الأعضاء ووجدت أمامي عدد كبير من أصدقائي الذين دعوتهم وأشخاص لا أعرفهم أيضا، فقلت لنفسي في مرح ممتزج بالدهشة:
- ويقولون أن الشعب المصري ليس إيجابيا ! هناك عشرة على الأقل أرسلوا دعوة إلى جميع أصدقائهم للانضمام إلى الجروب وهناك العشرات وضعوا الرابط على صفحتهم الرئيسية.. يا له من نجاح !

قفزت إلى الموبايل واتصلت بإبراهيم ولم أكد أسمع صوته حتى صحت في مرح:
- فكرتك عبقرية بحق يا صديقي.. أين رسوماتك؟ يجب أن نرفعها فورا.

غمغم في شك:
- هل نجح الأمر؟ ما الأخـ ..

صحت أقاطعه في انفعال:
- تعال فورا وأحضر معك كل ما رسمته في حياتك واصطحب فهمي معك أيضا.. لن تصدق أبدا ما سأخبرك به!

وأنهيت الحوار في ثقة..

***

مر يومان أخرج فيهما فهمي ابداعاته وفكاهاته المتميزة إلى الجروب ورفعنا عددا لا بأس به من تصميمات إبراهيم المضحكة وكنت أتولى إدارة الجروب في حماس وأنا أراه ينمو بسرعة تفوق كل التوقعات..

وفي اليوم الثالث كنت أتصفح الجروب ليلا حينما وجدت عضوا يدعو الأعضاء إلى الإشتراك في جروب آخر.. عقدت حاجبيّ وأنا أغمغم في ضيق:
- آه! هذه هي عواقب الشهرة إذن.. لقد زاد عدد الأعضاء عن الألف ولا ريب أن هذا العضو يريد استغلال نجاح الجروب للدعاية إلى جروبه الخاص.

عزمت على حذف ما يقوله لكنني توقفت فجأة حينما أدركت أن الجروب الذي يشير إليه يزيد عدد أعضائه بالفعل على المائة ألف عضو! فكرت في دهشة.. ما الذي سيستفيده حينما يعلن عن جروب مشهور كهذا في جروبنا المبتدئ؟
أجبرني هذا التساؤل على الدخول إلى الجروب الذي يعلن عنه.. كان إسلاميا بمعنى الكلمة يمتلئ بآيات القرآن والذكر وفيديوهات دعوية متنوعة للعديد من الدعاة الشباب والشيوخ الملتحين..
كان عالما جديدا ومختلفا تماما لم أحاول دخوله أو حتى القرب منه ولو من بعيد.. لكن هذه المرة شعرت أنني أريد أن أرى وأسمع كل ما يفعله هؤلاء.. شاهدت الفيديوهات وقرأت الكلمات فلانت نفسي وشعرت كيف أنني أخطأت في حقها بالبعد عن الله.. لم أشعر بعينيّ حينما انسالت منهما الدموع لتغرق وجهي وأنا لا أزال أتطلع إلى الشاشة.. انطلق عقلي وخفق قلبي كما لم يحدث من قبل.. وهنا فتح أبي باب الغرفة..
أدرت رأسي إليه في بطء.. لم أكن قادرا على التحدث ولكن الدموع كانت كافية للتعبير عن كل شيء..
وابتسم أبي..
ابتسم ابتسامة أبوية حنون صادقة ثم أغلق الباب خلفه وانصرف..

ومنذ هذا اليوم الذي شعرت فيه بلذة القرب من الله وحتى لحظة كتابة هذه السطور لم أتخلّ أبدا عن الصلاة والقرآن وبدأت في نشر مقطوعات دعوية على الجروب وارتفع عدد الأعضاء كل يوم على نحو ملحوظ..

وفي أحد الأيام جلست مع إبراهيم وفهمي في منزلي نناقش بعض الأمور حينما صمت إبراهيم فجأة واستغرق في التفكير حتى أنه لم يشاركنا الحوار فمال فهمي نحوي وقال في سخرية واثقة:
- إبراهيم يفكر في فكرة جديدة.

ابتسمت ونظرت إلى إبراهيم وأنا أشير لفهمي بالتزام الصمت.. تجمد الموقف كله لدقيقة واحدة ثم اعتدل إبراهيم فجأة في مجلسه وهتف في حماس:
- الترجمة.

رفع فهمي حاجبيه في دهشة في حين قلت أنا في حذر:
- ماذا تعني؟

اندفع يشرح في حماس:
- ما الذي يمنعنا من توسيع نشاط الجروب أكثر ليشمل الأجانب أيضا وليس فقط العرب؟ إنهم مغرمون أيضا بالفكاهة ونحن نعرف بعضا منهم بالفعل، لذا فالعقبة الوحيدة أمامنا هي عقبة الترجمة.

ثم هب واقفا وهو يضيف:
- سأستعين بصديقي جورج فهو طالب متفوق بكلية الألسن ويجيد ثلاثة لغات أجنبية إجادة تامة.. أعتقد أن الفكرة ستروق له.

خفق قلبي في قوة وأنا أتطلع إلى إبراهيم.. نعم.. ولم لا يكون نشاط الجروب عالميا ونقوم بنشر بعض الفيديوهات عن الإسلام باللغة الإنجليزية بحيث تظهر وكأنها نوع من الدعاية لجروبات أخرى في حين نستغلها نحن في الدعوة إلى الإسلام.. وجدت نفسي أهتف بنفس الحماس:
- خطوة رائعة يا إبراهيم.. اعرض عليه الأمر فورا.

***

جلس جورج معنا في حجرة منزلي وأنا أراقبه وهو يعدل نظارته الطبية فوق أنفه ثم يتنحنح قائلا:
- المعذرة يا شباب.. ولكنني مشغول للغاية في دراستي وكما تعلمون أحاول دوما أن أكون الأول على دفعتي ولا أحب أن يسبقني أحد في ذلك.. لذا يجب أن تخبروني ما جدوى كل ذلك وماذا سيعود علينا بالله عليكم بعد أن ينجح هذا الجروب؟ إن وقتي ضيق للغاية.

ابتسمت له وأجبته في هدوء:
- النجاح والانتشار يا جورج.. تخيل لو أننا أصبحنا ندير جروب يرتاده عشرات بل مئات الآلاف.. يمكننا حينئذ ان نستخدمه كقوة دعائية كبيرة ويلجا إلينا كل من يريد أن ينشر أفكاره فننشرها له بمقابل مادي مناسب.

كنت قد سمعت الكثير عن جورج هذا من إبراهيم وعلمت منه أنه من عشاق المال والشهرة.. فتحدثت معه باللغة التي يفهمها.. لاحظت عيناه تتألقان في شدة فانحنيت نحوه وأنا أتابع في صرامة:
- لن ننشر أي أفكار سيئة أو هجومية من أي نوع.

ارتبك لحظة وعاد يعدل نظارته على الرغم أنها مستقرة فوق أنفه تماما وقال:
- بالطبع.. بالطبع.

ثم نهض من مكانه في توتر وهو يسأل:
- متى تريدونني أن أبدأ؟

أجبته في قوة وسرعة:
- حالا.

سلمه فهمي الأوراق التي تحمل العبارات المطلوب ترجمتها إلى الإنجليزية ثم تركنا جورج أمام الكمبيوتر وخرجنا إلى الردهة كي نصلي المغرب في جماعة وقال فهمي في خفوت شديد:
- هذا الفتى لا يروق لي.

رتبنا أنفسنا للصلاة وأجبته بنفس الخفوت:
- لا تقلق يا فهمي.. لن أسمح له بتجاوز حدوده إن شاء الله.

***

(ما هذه الكلمات التي يكتبها الأعضاء على جدار الجروب؟)

كان هذا هو التساؤل الذي وجهته إلى جورج وهو يجلس بجواري أمام شاشة الكمبيوتر فارتبك هذا الأخير كعادته ثم اجاب:
- أنسيت أن الجروب الآن يضم أكثر من ألف عضو أجنبي؟ إنهم يتحدثون بالإنجليزية.

ابتسمت في سخرية وأنا أسأل:
- لاحظت ذلك يا جورج فيمكنني تمييز الإنجليزية.. إنني أسأل عن معنى هذه الكلمات.. إنها كلمات غير مفهومة.. ماذا تعنى بالضبط؟

ضحك بشكل مفتعل وهو يجيب ببساطة:
- اللهجة الأمريكية دوما معقدة.. إنهم يقولون أنه جروب متميز وأنهم سعداء بالانضمام إليه.

ملأني الشك حتى النخاع خاصة حينما وجدت الجدار بالكامل قد امتلأ بعشرات التعليقات الأجنبية الغير مفهومة ثم توقفت عيني عند كلمة (كرستيان) الإنجليزية وسألت جورج في صرامة هذه المرة:
- وماذا عن هذه؟

أجابني في ثقة شديدة:
- ماذا عنها؟ إنهم مسيحيون وهم يعلنون ذلك كما يعلن كل عضو مسلم عن ديانته.

ثم مال نحوي وهو يسأل بلهجة غامضة:
- هل تعتبر ذلك تجاوزا لحقوقهم أيها المدير؟

تراجعت في مقعدي وتطلعت إليه في صمت وقد بلغ مني الشك ذروته.. لم تكن هذه هي الكلمة الوحيدة التي جذبت انتباهي ولكن مئات الرموز التي لا أفهمها ولا أدرك سر وضعها هنا.. هل أثق في هذا الفتى؟!

ساد الصمت دقائق ثم تنهدت في عمق وقلت في أسف:
- يبدو أنه ليس أمامي سوى هذا.

،،،،،،،،،،،

ثورة على الفيس بوك .. مقدمة

اسمي جلال محفوظ.. طالب بكلية الحقوق جامعة القاهرة.. كنت دوما في كل مراحل تعليمي متوسط المستوى غير متميز على المستوى الدراسي أو الاجتماعي.. مجرد إنسان تقليدي إلى درجة مستفزة.. أنا كسائر شباب هذا الجيل مغرم بالكمبيوتر والإنترنت ولكنني أتميز عنهم بأنني أكثر خبرة ومهارة في استخدامهما وأفعل عادة ما لا يستطيع غيري أن يفعله..

نادرا ما أرى كليتي إلا في أيام الامتحانات عندما أكون مضطرا للحضور.. وإذا ذهبت فإنني أعود ليلا لأجلس مع أصدقائي على إحدى القهاوي المنتشرة في كل مكان لنحتسي عددا لا نهائي من أكواب الشاي وفناجين القهوة والسجائر وأحيانا الشيشة.. ثم أقضي الليل بطوله أمام الكمبيوتر أتصفح الإنترنت حتى الصباح فأنام حتى وقت متأخر من اليوم التالي.. وهكذا يستمر البرنامج اليومي بلا توقف..

كثيرا ما نصحني أبي وكلمتني أمي وأخبرني أعمامي أن موهبتي في استخدام الكمبيوتر لا يجب أن تذهب دون فائدة.. وأنني أقضي على نفسي بالجلوس على القهوة لساعات طويلة.. وأنني أدفن موهبتي بتصفح مواقع تافهة غير مفيدة ولا أحاول تطوير هواياتي واستغلالها بالشكل الأمثل.. وكان والدي بالأخص يتمنى أن أترك كل ما أفعل وأقوم بالتركيز في دراستي فقط وهو ما كنت أراه مستحيلا.. أي دراسة هذه التي سأنتهي منها لأجدني واحدا من آلاف الخريجين كل عام وأظل أنتظر في طابور لا نهاية له إلا الإحباط أو الجنون؟!

كنت مقتنعا بما أفعل.. لكنني كنت شديد البعد عن الله.. لم أكن أستمع إلى من ينصحني بالصلاة ويؤكد لي كم هي مهمة.. لم أكن أحب أن أستمع إلى الشيوخ أو أن أتفقه في ديني.. حتى السجائر لم أكن مقتنعا بخطورتها وكنت أوهم نفسي كغيري من الشباب بأنها رمز للرجولة و (الروشنة) !!

المهم.. جلست في أحد الأيام مع أقرب أصدقائي فهمي وإبراهيم على القهوة نتحدث عن بعض الأمور التافهة ونضحك في مرح كما اعتدنا دوما.. كان فهمي بارعا للغاية في تأليف نكت جديدة بسهولة وسرعة فننفجر بالضحك بلا توقف ثم يلقي كل منا دعابة لاذعة، ولكن إبراهيم عقد حاجبيه فجأة وقال:
- مهلا .. ألا تلاحظان شيئا ما؟

هتف فهمي في سخرية:
- بالطبع .. لقد توقفنا عن الضحك لخمس ثوان كاملة.

ضحكت أنا بصوت عال لكن إبراهيم تابع في جدية:
- كفى .. استمعا إليّ.

التزمنا الصمت ورفعت أحد حاجبي وأنا أستمع إليه وهو يقول:
- فهمي لا يتوقف كل يوم تقريبا عن تأليف وإبداع نكت جديدة.. وأنتما تعلمان أن العالم يحتاج إلى الفكاهة والمرح لكي ينسى كل المشاكل الطاحنة التي يمر بها.. وأنا أستطيع الرسم والتصميم.. وأنت يا جلال تستطيع استعمال الإنترنت جيدا.. هل تفكران فيما أفكر فيه؟!

ساد الصمت لحظات وحاولت أن أفكر في الأمر بقليل من الجدية ثم قلت:
- ما رأيك يا فهمي؟

هز فهمي كتفيه واسترخى في مكانه وهو يحتسي بقايا كوب الشاي مجيبا:
- إبراهيم يتحدث عن حياة جديدة وعن مشروع جديد وأنا شديد الرضا والاقتناع بحياتي.. إننا ننام ونأكل ونشرب ونخرج ونشاهد مباريات كرة القدم الممتعة ولا نحمل أي هموم! لماذا بالله عليكم أترك كل هذا النعيم وأفكر في مشروع قد ينجح وقد يفشل؟!

هتف إبراهيم في سخط:
- وهل تعجبكم هذه الحياة التي نعيش فيها عالة على غيرنا؟! لماذا لا نحاول على الأقل؟! ربما نجحنا في عمل أي تغيير!

لم أكن أرغب في استمرار المناقشة أكثر من ذلك، فنهضت من مكاني وأشرت إليهم وأنا اقول في ضجر:
- فليكن يا إبراهيم.. سنبدأ غدا في الإعداد لهذا الأمر.. ولكنني سأعود الآن إلى المنزل فأنا شديد الإرهاق.. أراكم غدا.

وأسرعت أبتعد وأنا أتثاءب في عمق..

***

فتحت باب منزلي ثم قفزت إلى الداخل في خفة وحاولت ألا أصدر أي صوت وأنا أغلقه خلفي، لكن أبي كان على وشك إنهاء صلاته في الردهة لذا فقد ناداني فور أن سلم عن يمينه وعن شماله، فاتجت إليه وأنا أقول في ضيق:
- تقبل الله يا أبي.

رمقني بنظرة صامتة طويلة ثم أجاب وهو ينهض عن الأرض:
- منا ومنكم يا جلال.. هذا إن نويت الصلاة وصبرت عليها يا بني.

هتفت في ضيق وأنا أحاول إنهاء الحوار:
- إن شاء الله يا أبي.. فقط عليك بالدعاء وعلى الله الهداية.

حمل أبي المصلية من الأرض ووضعها في ركن الردهة وهو يجيبني في مرارة:
- إن الله لا يغير ما بقوم حتى يغيروا ما بأنفسهم يا بني.. أنت تحتاج إلى وقفة صريحة وواضحة بينك وبين نفسك حتى تغير اتجاه حياتك وتكون كلها لمرضاة الله وحده.

أجبته في عجلة وأنا أتجه إلى غرفتي بالفعل:
- إن شاء الله.. سأفعل إن شاء الله.

أمضيت ساعتين أتصفح موقع الفيس بوك الشهير وأتحدث مع زملائي عبر برامج الدردشة فوجدت فيديو قصير لا يتجاوز الخمس دقائق ولكن عددا كبيرا من اصدقائي نصحوني بمشاهدته ورأيت أحد الشيوخ الملتحين يظهر في الفيديو وقلت لنفسي في ضيق:
- ألا ينتهي هذا الوعظ أبدا؟!

رفضت الدعوة وأكملت ما كنت أفعله.. لم أكن أتصور أنني سأقلب شبكة الإنترنت رأسا على عقب بعد هذا الموقف بعدة ايام بحثا عن هذا النوع من الفيديوهات الدعوية وستتغير حياتي تماما.. وكان فضل الله عليّ عظيما..

***

(هيا يا جلال.. نريد الجروب باسم مميز)

هتف إبراهيم بهذه الجملة في انفعال وهو يجلس بجوار فهمي معي في حجرتي أمام شاشة جهاز الكمبيوتر الخاص بي وقد فتحت حسابي بموقع الفيس بوك وبدأت في إنشاء جروب جديد ليكون متخصصا في الفكاهة والمرح ثم أجبته في سخرية:
- هل تظن أن الاسم هو ما سيجعل الناس تشترك معنا في هذا الجروب الجديد؟؟

أجابني في ثقة:
- لقد قرأت كثيرا عن هذا الأمر.. الاسم عامل هام في نجاح أي مشروع ونقطة محورية تحدد اهتمام الناس به من عدمه.. اجعله اسما جذابا.. وليكن مثلا "جروب ضحكتكوا".

رسمت على وجهي علامات الامتعاض وأنا أنهي إجراءات إنشاء الجروب قائلا:
- ضحكتكوا !!.. أهو جروب على الفيس بوك أم أحد محلات الفول الشهيرة؟!

غرق فهمي في بحر من الضحك في حين بدأت أنقل كل النكت التي ألفها فهمي إلى الجروب وما إن انتهيت من ذلك حتى أرسلت دعوة إلى كل أصدقائي للانضمام إلى الجروب وغمغمت في ضيق:
- أتعشم أن يهتم واحد منهم فقط بالانضمام.

نهض فهمي وإبراهيم وقال الثاني في اهتمام:
- سأبدأ غدا في تصميم بعض الكاريكاتيرات والرسومات الفكاهية لكي ننشرها على الجروب.

ضغطت على شفتي السفلى ثم قلت في ضجر متوتر:
- فليكن.. السكانر موجود ويمكنني رفعها في دقائق معدودة.. ولكنني لا أتحمس كثيرا لكل ما نفعله.

هز إبراهيم كتفيه وهو يقول في غموض:
- من يدري؟!

ولم يكن أحدنا يعلم أن هذه اللحظة ستكون مجرد بداية لتغيير حياتنا وقلبها رأسا على عقب..

خبطتين في الراس !!

خرجت من المنزل في وقت مبكر من صباح اليوم وأنا أشعر بالكثير من النشاط والحيوية، ووقفت أنتظر ميكروباص ينقلني إلى حلوان في طريقي إلى الكلية..

طال انتظاري حتى اقترب من نصف الساعة وفي النهاية تمكنت من الوصول إلى حلوان ثم توجهت إلى محطة المترو وأنا أستعيد ذكرى الحوار الذي دار بيني وبين أبي قبل أن أغادر المنزل مباشرة:

- جاهز يا محمد؟

- الحمد لله

- مش هتاخد حاجة معاك تراجع فيها؟

- مش هينفع عشان مش عايز أركنها في أي حتة قبل ما أدخل.. مهو مينفعش أدخل بيها الامتحان

- خد بالك من نفسك

- حاضر

كان اليوم هو امتحان عملي وشفوي البارا.. وطبعا في نفس اليوم لأنه امتحان الدور الثاني وليس الأول..

مر الوقت سريعا ووصلت مبكرا إلى الكلية.. جلست مع زميل أراه لأول مرة وتحدثنا قليلا قبل أن تبدأ اللجان.. كان ينتظر امتحان الفارما وكنت أنا أنتظر امتحان البارا.. وفور ان دقت الساعة الثامنة إلا عشر دقائق افترقنا وتوجهت إلى قاعة الانتظار حيث أنتظر مع زملائي بداية الامتحان في الثامنة..

وفور أن خطوت داخل القاعة شعرت بدوار شديد يكتنفني من كل جانب فتوجهت إلى الصف الأول وجلست حتى أستعيد توازني..
وكنت مذهولا هذه المرة..

لم يكن سبب ذهولي هو الدوار ولكن ذلك الألم الرهيب الذي أشعر به في أمعائي.. نفس الألم الذي شعرت به في امتحان عملي البارا الدور الأول !!

كنت أنتظر في نفس هذه القاعة عندما شعرت بنفس الألم يجتاحني وجعلني الدوار غير قادر على التركيز.. وعندما تحاملت على نفسي وتوجهت إلى الامتحان كنت لا أرى شيئا أمامي تقريبا.. وكلما انحنيت لأنظر خلال الميكروسكوب ازداد الدوار والألم ألف مرة..

أما هذه المرة، فقد كان الألم الذي يسيطر على أحشائي لا يُطاق بحق! كان أشد آلاف المرات من كل أنواع الألم..

كلما نهضت ازداد الدوار وكلما جلست ازداد ألم أمعائي وإذا حاولت أن أسير داخل القاعة هاجمني الدوار والألم معا !

فكرت بجنون .. كلا هذا ليس واقعا بكل تأكيد.. مستحيل أن يتكرر نفس الموقف في نفس الامتحان مرتين !!

ركلت الحائط بقدمي عدة مرات حتى انتبه زملائي إلى ما أفعله لكن أحدهم لم يجرؤ على سؤالي.. كان وجهي الشاحب خير دليل على حالي..

استعنت بالله ودخلت إلى الامتحان.. تسلمت ورقة الاجابة وكتبت اسمي ورقم جلوسي ورقم مجموعتي.. وبمجرد أن حان دوري تضاعف الألم بشكل جنوني.. تجاهلت الأمر واندفعت نحو أول ميكروسكوب وبمجرد أن انحنيت هاجمني الدوار.. تجاهلته وحاولت أن أدقق النظر.. ثم كتبت الاجابة.. وانطقلت من العينة إلى العينة التي تليها وأنا بالكاد أحاول الحفاظ على وعيي..

لاحظت إحدى المراقبات أنني غير طبيعي إطلاقا واقتربت مني حتى تسألني عما أصابني لكن الوقت كان ضيقا بشدة.. انتهى الامتحان وسلمت الورقة وحاولت الحفاظ على اتزاني وأنا أغادر المكان..

كان امتحان الشفوي هو التالي مباشرة في الطابق العلوي.. صعدت درجات السلالم في بطء وأعتقد أن أحد أصدقائي سألني عن الامتحان لكنني لم أشعر به ولم أسمعه إلا بعد أن تجاوزته بعشرة أمتار..

وبمجرد أن وقفت أمام لجنة الشفوي شعرت بأن نوبة الألم قد عادت فتركت المكان كله وصعدت إلى الطابق الرابع حيث لا أحد سواي وجلست أرضا ثم دفنت رأسي بين كفيّ.. ناجيت ربي دون أن أتكلم.. لم أكن قادرا على إخراج كلمة واحدة من حلقي.. فكرت.. هل أظل هكذا إلى الأبد؟؟ لو لم أستعد توازني فستكون كارثة.. يجب أن أنتبه في لجنة الشفوي هذه المرة.. يجب أن أتغلب على كل شيء..

ساعدني يا إلـــــهي !!

ظللت صامتا ساكنا لدقائق.. وبمجرد أن تركت عقلي يسبح في مناجاة ربي ويطلب منه الاستعانة والنجدة، وجدت الألم يخفت فجأة حتى تلاشى فنهضت في بطء ووجدت أن الدوار قد قل كثيرا.. حمدت ربي بصوت مسموع هذه المرة وهبطت إلى الطابق الثاني حيث الامتحان الشفوي..

دخلت إلى الدكتورة الأولى.. أعطيتها الكارنيه ولاحظت نظرتها الفاحصة إلى وجهي الشاحب.. لم أعلق بل اكتفيت بكتابة اسمي.. سألتني سؤالا مباشرا فجاوبتها ببساطة.. بدأت تسأل أسئلة عديدة حول نفس الموضوع فأجبتها.. وعندما وجدت ذلك بدأت في توجيه سؤال أكثر صعوبة.. لم أكن قد استعدت كامل صفاء ذهني بعد فأخبرتها أنني لا أعرف..

سألتني بعدها سؤال تجميع لمجموعة من موضوعات الترم الأول فأجبتها وشرحت لها ما أفهمه فقالت:

- excellent .. إيه اللي جابك هنا يا دكتور؟؟

- امتحان النظري يا دكتورة.. امتحان النظري اللي جابني هنا

- بس انت شكلك مذاكر كويس

- منا كنت مذاكر كويس في النظري.. لكن حاجات كتير معرفتش أحلها خصوصا الـ cases .. هي البارا كدا بالنسبة لي يا دكتورة زي البيو بالظبط.

ابتسمت وأشارت إلى الدكتورة الثانية.. كانت أكثر طيبة منها.. تسأل سؤالا مباشرا إجابته كلمة أو كلمتين ثم تستطرد في الشرح.. كنت أشعر أنني في محاضرة بدلا من أن أكون في امتحان.. وفي النهاية تسلمت الكارنيه وخرجت..

وبمجرد أن خلوت إلى نفسي عدت أسأل السؤال نفسه بجنون:
نفس الأمر يتكرر مرتين !
وفي نفس الامتحان !!

حسنا.. هذا قدري .. وهو ابتلاء.. أعلم ذلك جيدا..

ولكن هذا الابتلاء قد يكون بذنوبي .. وقد يكون لأن الله يحبني..

أشعر أنني أستبعد الاحتمال الثاني... فمن أنا حتى أحظى بحب أعظم العظماء؟؟

إذن هو الأول.. نعم هو كذلك.. لذا أقول الحمد لله على كل حال.. فلو كان هذا الابتلاء تعجيلا لعقوبتي عن ذنوبي في الدنيا فالحمد لله أنه في الدنيا وليس في الآخرة.. وإن لم يكن كذلك فلن أقول أيضا سوى.. الحمد لله

بس فعلا كانوا خبطتين في الراس .. ووجعوا !!

أريده كحمزة !!

البارحة.. بعد صلاة العصر مباشرة.. جلست أتصفح الانترنت كعادتي لفترة حتى انشغلت واستغرقت تماما فيما أفعل حتى لاحظت صديقي الأمريكي (جوني) أونلاين على الياهو ولم أكن أراه متاحا منذ فترة طويلة، فتحدثت معه:

- مرحبا (جوني) .. لم أرك منذ فترة

- مرحبا فخري .. نعم معك حق

- أتمنى أن تكون بخير

- وأنت أيضا يا صديقي

- ماذا تفعل الآن؟

- أقرأ كتابا.. كتاب ممتع للغاية

- هذا رائع .. حسنا يمكنني أن أذهب حتى تنتهي منه

- كلا.. لم أتحدث إليك منذ فترة.. كيف حالك يا صديقي؟

- بخير حال.. وأظن أن لدي هدية لك هذه المرة أكثر متعة من الكتاب

- هدية؟!

- نعم.. فيلم ممتع جدا باللغة الانجليزية.. أرشحه لك

- عن ماذا يتحدث؟

- إنه فيلم تاريخي .. يحكي قصة الإسلام منذ ظهوره

- الإسلام؟؟

- نعم

- هل .. هل يمكننا أن نؤجل هذا الأمر؟ لا أظن أنه ..

- (جوني) .. هل تظن أنني أريد بك الشر؟

- كلا

- لِمَ لا تجرب إذن .. اعتبره إضافة إلى معلوماتك .. يجب أن تعلم ما يدور حولك .. سيكون شيئا ممتعا لو فهمت الاسلام كما هو دون تحريف من قوم لا يفهمونه.. هذا الفيلم يعرض لك كل المعلومات اللازمة عنه وبمنتهى الأمانة

- أرى ذلك

- هيا يا (جوني) لا تتردد.. أنا أعلم أن سرعة الانترنت عندك لا تقل عن 2 ميجا .. لن يستغرق تنزيل الفيلم طويلا.. بالتوفيق

- حسنا يا صديقي .. سأتحدث إليك ليلا .. اتفقنا؟

- اتفقنا

،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،

كنت جالسا ليلا أتصفح موقع (على بابا) التجاري الشهير حينما فوجئت بـ (جوني) يتحدث إليّ قائلا:

- محمد ..

ارتفع حاجباي حتى قمة رأسي فهو لم يخاطبني باسمي من قبل مطلقا بل كان دوما يختار اسم (فخري) فأجبته بسرعة:

- مرحبا يا صديقي .. كيف حالك؟

- بخير حال .. لقد شاهدت الفيلم

لم أستطع منع دقات قلبي من الخفقان في شدة وأنا أسأله:

- وماذا ترى يا صديقي؟

- لا أعلم .. إنه رائع .. ولكن..

- ولكن ماذا يا عزيزي؟

- إنهم أشخاص مكافحون .. لهم رسالة ويناضلون من أجلها.. ولقد واجهوا في سبيلها الكثير من المتاعب

ظللت صامتا لكي يفرغ كل ما بجعبته وهو يتابع:

- أشعر الآن أنني أفضل اسم (محمد) على اسمك (فخري)

- كلاهما اسمي يا صديقي فأنا (محمد فخري)

- هل تعلم .. لكم أتمنى أن يكون (ماريو) مثلهم .. أريده كحمزة!!

التزمت الصمت لكي أمنحه الفرصة للتفكير.. كنت أعلم أن (ماريو) هو ابنه الذي يتمنى أن ينجبه من صديقته (الجيرل فريند) التي حدثني عنها يوما فقلت في هدوء:

- (جوني) .. (حمزة) لم يكن ابنا لعلاقة محرمة بل كان سيد الشهداء .. لو كنت تريد ابنك كـ (حمزة) .. فاحرص على أن تحسن أخلاقك إلى مستواه .. وأن تبتعد عن العلاقات المحرمة

- الأمر صعب .. أنت لا تعلم ماذا تمثل (جيسيكا) بالنسبة لي

- أنا لا أريدك أن تخسر حياتك .. ولكنك الآن عرفت أن الإسلام هو دين الأخلاق.. وتمنيت بنفسك أن تصل إلى مستوى أخلاقه.. فلِمَ لا تعتنقه يا (جوني)؟

- أعتنقه !!

- نعم يا صديقي .. أنا أدعوك إلى الإسلام.. وسأرسل لك رابطا للمصحف المترجم مع التفسير الكامل.. ورابطا آخر لسيرة النبي محمد صلى الله عليه وسلم لتقرأها بعد أن شاهدتها

- ولكنني سأخسرهم!

- ستكسب ربك ودينك.. ستكسب الحق والصواب.. وربما تكون سببا في هداية آخرين

- سأخسر (جيسيكا)

- وماذا في هذا؟؟

- إنني أحبها !

- إذن ادعها إلى مشاهدة الفيلم وقراءة القرآن .. شجعها على الاقتراب وتغيير حياتها نحو الأفضل .. هل تقبل أن تظل غارقا معها في الحرام وتنجب ولدا بعيدا عن الأخلاق الفروسية الإسلامية الرائعة؟

- لا أريد ذلك

- ماذا تنتظر إذن يا صديقي؟

ساد الصمت فعلمت أنه يفكر.. عدت أقول:

- غدا أقول لك يا أخي.. أخي الحبيب في الاسلام

ابتسم وكنت أعلم أنه شديد التوتر فهو يمر بقرار سيقلب حياته رأسا على عقب.. أنهيت الحوار ثم استندت إلى مقعدي مرة أخرى وأنا أقول في عمق:

- ثبته يا إلهي وساعدني على البقاء إلى جواره .. يا رب !

هل ترى هذا الموقف من حيث أراه؟؟

"لا فائدة"

ترددت هذه الكلمة فوق المسجد الكبير الكائن وسط محافظة القاهرة، ولكن لم يسمعها أحد لأنها كلمة لم ينطقها البشر فلن يسمعها البشر..

إنها كلمة قالها ملاك من ملائكة الله، هبط في جماعة من اقرانه من السماء نحو هذا المسجد مباشرة ليحفوه بأجنحتهم عندما تجمع داخله مئات الرجال يصلون ويقرأون القرآن ويسمعون وعظ الإمام، لكن أحدهم ما إن ترك الجماعة وغادر المسجد حتى اتجه إلى منزله القريب وجلس أمام التلفاز يشاهد بعض الأفلام والمسلسلات الهابطة..

لذا فقد كانت هذه الكلمة التي قالها الملاك تعبيرا عن أسفه الشديد لموقف الشاب الذي لم يكد يغادر المسجد حتى هرول إلى معصية الله، فقال الملاك الآخر الذي يطير بجواره:

"استغفر له.. هذا هو دورنا.. وكل ما نستطيع أن نقدمه له"

استمر الملاكان في الاستغفار للرجل ولكل المسلمين وبدءا يرتفعان إلى السماء مرة أخرى، في حين اقترب شيطانان من المكان وتسللا إلى منزل نفس الشاب الذي يشاهد التلفاز وأحاطا به يحرضانه على الاستمرار..

كان الشاب يقلب القنوات واحدة بعد الأخرى دون اهتمام حقيقي حتى وقع بصره على قناة من قنوات الأغاني التي تعرض حفلات المطربين والمطربات وخلفهم مجموعة من الراقصات أو "الموديلز" بلغة العصر وقد خففت كل منهن من ثيابها حتى صرن كما وصفهن النبي الكريم صلى الله عليه وسلم نساء كاسيات عاريات..

وهنا اقترب الشيطان من الشاب أكثر وقال له في عمق:

"هل رأيت من هي أكثر جمالا من هذه الفتاة؟؟"

وقال الشيطان الآخر:

"هل سمعت كلمات الأغنية.. ألم تشعر بالغيرة.. ألا تتمنى أن تكون لك فتاة كهذه؟؟"

هز الشاب رأسه في شدة كأنما يحاول طرد هذه الأفكار الشيطانية من رأسه، لكنه ظل يشاهد القناة ويستمع إلى الأغنية..

وخارج المنزل عاد الملاكان يمران بالقرب من المكان وأحدهما يقول للآخر:

"غناء.. رقص.. إنه يزني ببصره.. ونفسه تتمنى.. ولكن قلبه لا يزال صامدا.. إنه يتردد بين هذا وذاك.. فتارة يطيع وتارة يعصي"

قال الآخر:

"ليتنا نستطيع الدخول فنعيده إلى صوابه"

وفي نفس اللحظة، كان شقيق هذا الشاب - الفتى الصغير الذي لم يتجاوز الخامسة عشرة - يجلس في غرفة أخرى فالتقط كتاب الله وبدأ يقرأ سورة البقرة بصوت جميل منغم وتلاوة سليمة..

وأسرع الشيطانان يهربان من المنزل، في حين اقترب الملاكان من الفتى الصغير يستمعان إلى القرآن ويظللانه بأجنحتهما فحلت البركة على المنزل وأغلق الشاب التلفاز ونهض للوضوء، لكنه مر على غرفة شقيقه فنهره بلا سبب وشتمه فلم يرد الفتى..

واستغفر الملاك الأول وهو يقول:

"اللهم اغفر له.. ليته يعلم أن شقيقه هو من طرد الشر من هنا وجلب الخير كله!.. وهو الآن يسبه ويعنفه.. يا رب ما أصبرك على هؤلاء وهم يبارزونك بالمعصية ليلا نهارا ويبتعدون عنك شيئا فشيئا وإذا اقتربوا لحظة يبتعدون سنوات! سبحانك يا رب"

قال الثاني:

"نعم.. هو القائل.. إن رحمتي سبقت غضبي"

اتجه الشاب إلى المسجد.. وأحاطته الصحبة الصالحة.. وبكى بشدة حينما سمع آيات الله.. فتاب وعاد إلى رشده.. وأسرع يقبل رأس أخيه عندما عاد إلى منزله، فطار الشيطانان بعيدا وهما ينعيان سوء الحظ، وقال أحدهما للآخر في حنق شديد:

"مهما فعلنا.. بمجرد أن يتوب أحدهم ويعود إلى ربه فسيقبله وسيثبته على الحق.. كيف يمكن أن نحارب قوما كهؤلاء! والله ما جعل الله لنا من سبيل إلى أمة محمد!"

وهنا توقف الجميع وتعلقت عيونهم بالملاك المهيب الذي يقترب من المنزل وقال الملاك الأول في رهبة:

"إنه ملك الموت!"

وفي لهفة تابع الجميع ملك الموت وهو يقترب من الشاب الذي انهمك في الصلاة وهو يناجي ربه ويبكي له، حتى إذا سجد تمثل له ملك الموت في هيئة مباركة طيبة جميلة وأخرج روحه في يسر وحنطها بحنوط من الجنة مع مجموعة من الملائكة..

،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،

رسالة لي ولك ولكل مسلم..

تب اليوم قبل غدا.. هذه اللحظة قبل اللحظة التي تليها.. فلا أحد يعلم ما سيحدث عما قريب!!

موعد مع الكرامة - النهاية

تلفت "وصفي شامخ" حوله في قلق وتوتر، حينما اقترب من موقع (سبايدر) المحدد على الخريطة، وقال:
- لا أشعر بالاطمئنان أبدا.. المكان هادئ أكثر من اللازم.
هتف أحد رجاله:
- لقد قضينا على مقاومتهم منذ اللحظة الأولى يا سيدي.
أجابه "وصفي":
- هذا لا يعني شيئا.
وصمت لحظات ثم أشار إلى رجاله بالالتفاف حول مدخل غرفة (سبايدر) وقال آمرا:
- استعدوا.. سنهاجم عند رقم ثلاثة.
تمسك الجميع بمدافعهم في صلابة وحبسوا أنفاسهم حتى صرخ قائدهم بالرقم ثلاثة، فاندفعوا بكل حماسهم نحو مدخل المكان..
وفجأة، انطلقت مئات من أشعة الليزر من داخل الحجرة لتقتل عشرات الرجال في ثانيتين فقط، وتصاعدت شعل نارية وكتل هائلة من اللهب عبر مدخل المكان لتشوي الأجساد وتنطلق صرخات الألم والعذاب..
وبعد أربعة لحظات من بدأ الهجوم كان ثلاثة أرباع القوة العربية قد تحولت إلى جثث ممزقة أو محترقة، فصرخ "وصفي" بكل قوته وهو يتراجع في مرونة:
- تراجعوا.. إنه فخ.
واستمر سقوط القتلى حتى تراجع من بقى على قيد الحياة، واصطفوا على جانبي مدخل الحجرة وهم يلهثون في عنف..
وصرخ أحد الرجال:
- لن يمكننا اقتحام هذا المكان.. إنه محاط بوسائل حراسة إلكترونية رهيبـ..
بتر عبارته وتألقت عيناه، فأدرك "وصفي" ما دار برأسه..
نعم..
حراسة إلكترونية..
ومثل هذه الحراسة يجب أن تستمد الطاقة الكهربية من مصدر ما..
ولكن الشهيد "عمر" دمر بنفسه مولد الكهرباء الرئيسي للمكان!!
وهنا، انتزعه نفس الرجل من تفكيره وهو يضيف في حسم:
- هناك مصدر كهرباء احتياطي إذن.
وبسرعة البرق، رفع "وصفي" الخريطة التي سلمها إليه "عمر" ليفحصها بمنتهى الدقة بحثا عن موقع المولد الاحتياطي..
كان يسمع تأوهات رجاله ولهاثهم المتواصل، وقد أدرك جيدا أن الهجوم بدون تدمير المولد هو الجنون بعينه..
سيخسرون حياتهم دون فائدة..
"ها هو"..
هتف "وصفي" بهذه الكلمة في حماس وهو يشير إلى موقع معين على الخريطة، وقال في ثقة:
- هذا هو الموقع الوحيد الذي يصلح لتزويد المكان بالطاقة الكهربية.
وقفز على قدميه وهو يصيح في حماس:
- هيا يا رجال.
ولكن فجأة، ارتج المكان كله بمنتهى العنف، وارتفعت ألواح الصلب التي تغلق مداخل ومخارج المكان، فغمغم "وصفي" في توتر:
- زائر جديد إذن! ترى مـ..
وقبل أن يتم تساؤله، برزت عبر المدخل الشرقي للمكان آلة عجيبة تشبه مركبة فضائية صغيرة، واندفعت نحوهم مباشرة، فتعرفها على الفور وصرخ:
- يا إله السماوات !! إنها (إيريسَر) !!
وانهارت أعصاب الجميع..
وبمنتهى العنف..

***

كتم مدير المخابرات المصرية دموعه بمنتهى الصعوبة وهو يتابع التقرير الأخير الوارد من الولايات المتحدة، وأطلق تنهيدة حارة من أعماق صدره قائلا:
- رحمكم الله يا رجال.
علق مساعده متسائلا:
- هل تظن أن المهمة قد فشلت يا سيدي؟
أجابه المدير في حزم وسرعة:
- مستحيل.
وهب واقفا وهو يضيف:
- لن تذهب كل هذه الدماء هباءً في النهاية.
وحاول أن يتماسك مرة أخرى ثم تابع:
- سننجح بإذن الله.
ارتفع رنين قصير من جهاز الكمبيوتر الموضوع أمامه في هذه اللحظة، فأسرع يقرأ الرسالة الجديدة التي وصلته عبر الإنترنت، ثم انعقد حاجباه في شدة..
فهذه الرسالة الجديدة قد تعني الكثير..
والكثير جدا..

****

لم يستغرق "وصفي" إلا لحظة واحدة اتخذ بعدها قراره بمنتهى الحسم والصرامة، فالتفت إلى أحد رجاله وسلمه الخريطة وهو يشير إلى موقع المولد الاحتياطي قائلا بلهجة آمرة:
- هذه مهمتك.
اتسعت عينا الرجل في ارتياع حينما أدرك ما يعنيه هذا وصاح:
- لا يمكنك أن تتصدى وحدك لهذه الـ..
قاطعه "وصفي" هذه المرة صارخا:
- اذهب.
امتلأت عينا الرجل بالدموع، لكنه أسرع يشير لباقي الرجال وقال بصوت متحشرج:
- هيا يا رجال.
وقف "وصفي" يتابعهم في صمت حتى اختفوا داخل أحد الممرات، ثم عاد يلتفت إلى (إيريسَر) التي تقترب منه في سرعة، وانعقد حاجباه قائلا في إيمان:
- هل تظنني أخاف الموت أيها الحقير؟
ثم تقدم في خطوات قوية نحوها وصوب إليها مدفعه الرشاش وأخرج أحد القنابل اليدوية بيده الأخرى واستعد لنزع فتيلها وهو يتابع:
- أشهد أن لا إله إلا الله.. وأن محمدا رسول الله.
واأطلقت (إيريسَر) شعاعا أزرق نحوه، فنزع فتيل القنبلة بسرعة، و..
ودوى الانفجار بمنتهى العنف..

****

قفز مساعد مدير المخابرات المصرية داخل مكتب مديره وهو يهتف في سعادة:
- لقد أظلم مبنى السي آي إيه تماما وتوقفت وسائل دفاعاته!
لم يظهر أي رد فعل على ملامح هذا الأخير، ثم زفر في مرارة وهو يجيب:
- وهل تجد ما تقوله شيئا مفرحا بعد أن حدث هذا؟!
وأشعل شاشة بروجكتور كبيرة أمامه، وأعاد مشهدا معينا، فشهق مساعده وهو يردد:
- يا إلهي!
فأمامه مباشرة كانت (إيريسر) تنطلق في سماء فرجينيا نحو لانجلي مباشرة، وقال المدير:
- هذا المشهد تم التقاطه منذ عشرة دقائق.. وهذا يعني أن (إيريسَر) قد وصلت إلى هدفها بالفعل.. وأنت تعلم ما الذي يعنيه هذا.
وساد الصمت والسكون تماما هذه المرة..

****

كانت لحظة رائعة تلك التي ألقى فيها أربعة رجال من المخابرات العربية قنابلهم نحو المولد الاحتياطي، وحينما انفجر بدوي هائل ليسود الظلام في كل مكان وتتعطل وسائل الأمن في المقر كله..
وبسرعة قال أحدهم لزملائه:
- استخدموا الكشافات الكهربية الصغيرة الموجودة في ساعاتكم.. سنعود فورا إلى سبايدر.
ولكن أحد الرجال صرخ في ارتياع:
- انظر هناك..
فعلى بعد عشرات الأمتار كانت (إيريسَر) تنطلق نحوهم مباشرة وقد تجاوزت الانفجار الذي صنعه "وصفي" بمنتهى السهولة دون أن يؤثر فيها ولو بخدش واحد، وقد تركت خلفها جثة هذا الأخير التي تحولت إلى كومة من العظام والدماء..
وفي مرارة، عض الرجل الأول على شفتيه وقال:
- رحمك الله يا "وصفي".
صرخ الرجل الثاني:
- إنها تقترب.. لم يعد هناك مهرب.
انعقد حاجبا الأول لحظة واحدة، ثم أشار إلى زملائه وصاح:
- هيا.. سننطلق إلى سبايدر.. سندمره أولا وبعدها فليحدث ما يحدث.
وانطلق الجميع نحو سبايدر..
وخلفهم، انطلقت (إيريسَر)..
وبدا من الواضح أنها ستلحق بهم في سهولة فسرعتها عشرة أضعاف سرعتهم تقريبا خصوصا مع الألم والإرهاق الذي يعانون منه..
وأن تنجح في القضاء عليهم..
فيبقى (سبايدر)..
ويختفي الأقصى..
إلى الأبد..

****

عندما يبذل الأبطال أرواحهم ودماءهم في سبيل رسالتهم..
عندما يتمكن الإيمان من القلوب فتكون الرسالة أهم من الحياة ولا يساوي الموت شيئا..
عندما يثبت كل مسلم وكل عربي أنه جدير بحمل هذه الرسالة وجدير بالدفاع عنها..
عندما يصل كل منا في موعده..
موعده مع الحرية..
موعده مع الكرامة!
حينئذ يتحقق النصر..
حينئذ تتدخل العناية الإلهية ويقول الله عز وجل: كن.. فيكون..

ففي اللحظة نفسها التي لحقت فيها (إيريسَر) بالعرب وبدأت في إطلاق أشعتها، انفجر سقف المكان في عنف رهيب إثر طلقة صاروخية عنيفة أطاحت به تماما، وكشفت المقر لتصنع أعلاه فجوة كبيرة..
وتوقف الجميع في ذهول..
فهذه الضربة الساحقة لا يمكن أن يصنعها جيش من الرجال..
ولا حتى دبابة..
ولا حتى طائرة حربية!!
ما الذي يمكن أن يكون بهذه القوة إذن؟!

وعبر هذه الفجوة الواسعة، ظهرت طائرة صغيرة تشبه الهليوكوبتر لكنها بلا ذيل، وتضع في مقدمتها عدة مدافع قوية من الصلب..
ولم يتوقف الرجال لحظة واحدة ليشاهدوا ما حدث..
لقد أسرعوا يتابعون طريقهم مباشرة نحو حجرة (سبايدر)..
ولأن (إيريسَر) مبرمجة بحيث تمنع أي اعتداء على (سبايدر) فقد تجاهلت تلك الطائرة الجديدة وانطلقت خلف الرجال..
ولكن صاروخين موجهين انفصلا عن مقدمة الطائرة الجديدة وأطاحا بـ (إيريسَر) بمنتهى العنف، فارتطمت بجدار المكان وانفجرت لتتطاير شظاياها في كل مكان، في حين أسرعت الطائرة تبتعد عبر نفس الفجوة لتعود من حيث أتت..

ولا أحد يمكن أن يتخيل ذلك الحماس الذي سيطر على رجال المخابرات العربية وهم يتجهون إلى هدفهم..
وفي نعومة، بدأ تسلسل الذكريات يمر أمام أعينهم..
"فارس"..
"جهاد"..
"فاتن"..
"عمر"..
"كمال"..
"جلال"..
"وصفي"..

الأبطال الذين ضحوا بكل قطرة دم في سبيل الأقصى..
الأبطال الذين - لعلهم - يشاهدون هذا المشهد الآن في سعادة وقد اقترب الحلم الذي عاشوا وماتوا من أجله..

وفي مشهد تاريخي يستحق أن يقف له الجميع في رهبة واحترام، أحاط الرجال بحجرة سبايدر وصاحوا جميعا بصوت واحد وهم ينزعون فتيل القنابل ويلقونها في نفس اللحظة:
- الله أكبر.

وكان هذا الانفجار هو الأشد..
الأشد على الإطلاق..

****

"ولكنني لم أفهم.. كيف نجح رجالنا في مواجهة (إيريسَر)؟!"
هتف مساعد مدير المخابرات المصرية بهذه العبارة في فضول وهو يواجه مديره، فابتسم الأخير وأجاب:
- ألم تكن بصحبتي حينما أرسل الرقيب (إسنوفيتش) رسالته الإلكترونية؟
أومأ برأسه وأجاب:
- بلى.
تابع المدير:
- لقد كانت رسالة مختصرة للغاية، تقول أن الروس على علم بكل ما يحدث منذ البداية، ويجدون فيه فرصة مناسبة ليتدخلوا بشكل غير مباشر، ويلقنون عدوهم القديم درسا قاسيا.
انعقد حاجبا المساعد وغمغم:
- تقصد أمريكا؟
ابتسم المدير وأجاب:
- من غيرها؟
ونهض من مقعده وهو يتابع:
- لقد عرض علينا أن يُرْسِل واحدة من مقاتلات جيش الدفاع الروسي لمؤازرتنا في عملية الأقصى، بهدف تدمير مقر السي آي إيه وإلحاق خسائر فادحة بالأمريكان، ولكن بشرط واحد هو أن يقود هذه المقاتلة رجل عربي حتى يبتعد اسم (روسيا) عن هذه العملية تماما.
واتسعت ابتسامته مؤكدا:
- ولقد حرصنا على هذا، وقاد أحد رجالنا المقاتلة لتنفيذ العملية في هدوء وسرعة وحسم.
لم يستطع المساعد كتم ضحكته وهو يقول:
- يا للسعادة! أعتقد أن هذه مكافأة إلهية غير متوقعة على الإطلاق.
علق المدير في خشوع:
- ونِعْمَ بالله.

وعاد إلى مقعده وهو يتنهد في عمق، ثم صمت لحظات وقال:
- لقد انتصرنا فوق جبال من الدماء والتضحيات.. انتصرنا فوق جثث الرجال وبقاياهم..
انتصرنا حينما حرصنا على كرامتنا وعلى ألا تنحني رؤوسنا إلا لله سبحانه وتعالى فقط..
انتصرنا حينما اتحدت قوانا وتكاملت، بدلا من أن ننفصل ونتشاجر..

نعم..
من هنا يأتي النصر..
والكرامة..

(تمت)

قضبان من نار.. الفصل الرابع

ضغط دكتور "بيتر فوميل" زر رتاج باب حجرة الأشعة فتألق بضوء أزرق فيروزي وانبعث صوت آلي يقول:
- جاري التحقق من الشخصية.. رجاء ابرز هويتك.

وضع دكتور بيتر راحته في المكان المخصص لها فتألق بوهج أحمر قاتم ثم أخرج من جيب معطفه بطاقته الإلكترونية ودسها في المكان المخصص لها..

انبعث الصوت الآلي مرة أخري قائلا:
- دكتور بيتر فوميل.. تم التحقق من الشخصية.

انفتح الباب بهدوء وخطى دكتور بيتر داخل الحجرة محدثا نفسه:
- ليلة طويلة من العمل الشاق مرة أخرى! كم أشتاق لفنجان من القهوة.

ثم احتل المقعد المخصص له قائلا:
- كيف حالك أيها الفيروس اللعين؟ أما زلت تعاند وترفض أي نوع من الأشعة لاختراقك؟

ضغط زر جهاز التسجيل الصوتي ثم قال:
- لازالت الأبحاث لم تسفر عن جديد, لم يخترق أي نوع من الأشعة تم استخدامه في التجربة الغلاف البروتيني للفيروس (إف 33).. تم استخدام أشعة إكس والأشعة تحت الحمراء والأشعة فوق البنفسيجية.. أرجح أن ذلك بسبب تلك المادة التي لا يزال تركيبها مجهولا (سي إف 7) في غلافه البروتيني.. جاري العمل علي فصل تلك المادة الآن.

تناول دكتور بيتر أنبوب اختبار معدني ووضعه في الفراغ المخصص له في جهاز أمامه، ثم ضغط عدة أزرار بترتيب معين، وبعدها انتظر عدة دقائق حتى انبعث صوت آلي يقول:
- تمت العملية بنجاح, ولا زال تركيب المادة مجهولا.

عاد يضغط زرا آخر قائلا:
- والآن إجراء التحليل الطيفي.

انفصل أنبوب جديد داخل الجهاز يحوي تلك المادة واستقر في فراغ آخر ودكتور بيتر يتابعه عبر الزجاج الشفاف في شغف..

تألق باب الحجرة بوهج أزرق فيروزي مرة أخري فتساءل في نفسه:
- تري من زائر نصف الليل هذا؟!

انفرج الباب بهدوء فتهللت أسارير وجهه قائلا:
- لا تدري كم سعدت بقدومك يا صديقي العزيز.. لقد كدت أموت مللا! هلا أحضرت لنا فنجانين من القهو..

وقبل أن تتم عبارته أصابته طلقة ليزرية في منتصف جبهته تماما صرعته في الحال..

واتجه القاتل إلي الجهاز الذي كان يعمل عليه دكتور بيتر منذ دقائق وضغط زرا صغيرا فانفتح الغطاء الشفاف ليستولي علي أنبوبتي الإختبار وهم يغمغم في سخرية:
- اذهب الي الجحيم.. من يهتم بتركيب هذه المادة ايها اللعين؟! الأهم هو ما تستطيع فعله..

واتجه إلي جثة دكتور بيتر الملقاة أرضا وانتزع بطاقته الإلكترونية من جيب معطفه وهو يرمقه بنظرة ساخرة، ثم غادر الحجرة بهدوء تاركا وراءه لغزا غامضا لأبعد الحدود..

*****

اجتاز مدير أمن المركز مستر "إدواردز" اختبارات التحقق من الشخصية في قلق وتوتر بعد هذا الإستدعاء العاجل له من قبل مدير المركز "جون ماركوس" وهو يعلم جيدا أن مقتل دكتور بيتر هو السر الغامض وراء هذا الإستدعاء مما سبب له مزيدا من التوتر..

جلس إدواردز أمام مكتب دكتور جون في توتر تام حتي سأله:
- ماذا لديك حتي الآن بشأن مقتل دكتور بيتر؟

أخذ إدواردز نفسا عميقا محاولا السيطرة علي أعصابه الثائرة قائلا:
- تم إحاطة الخبر بسرية تامة حتي لا نثير وسائل الإعلام، وأصدرنا تصريحا يفيد بسفر دكتور بيتر العاجل الي إنجلترا لإنجاز بعض المهام هناك و..

قاطعه جون في عصبية:
- ليس هذا ما أقصده.. ماذا توصلتم بشأن التحقيقات؟

نطق ماركوس هذا السؤال في توتر واضح فتنحنح إدواردز قائلا:

- صرح الطبيب الشرعي أن مقتل دكتور بيتر بسبب طلقة ليزرية أصابت منتصف جبهته تماما واخترقت مخه مباشرة فأودت بحياته في حينها, وحدد موعد الحادث بالساعة الثالثة والربع بعد منتصف الليل, وأسفر البحث عن فقدان بطاقة دكتور بيتر الإلكترونية، وفيما عدا..

نهض جون من مقعده وغمغم مفكرا:

- ولم بطاقته الإلكترونية؟! وكيف سيتجاوز باقي وسائل التحقق من الشخصية؟

لوح إدواردز بكفه في حيرة قائلا :

- لست أدري فيم سيفيده هذا بالتحديد.

عاد جون يغمغم في تساؤل وهو يدور في أنحاء الحجرة:

- هل تدري ما معني أن الحادث قد وقع داخل غرفة الأشعة؟

أجابه في حيرة:

- لست أدري مقصد سؤالك يا سيدي.

استدار اليه جون قائلا:

- معني هذا أن القاتل واحد من ستة علماء من الفئة (ب) فقط المسموح لهم بدخول تلك الحجرة.. إذن ينحصر القاتل في خمسة علماء باستثناء دكتور بيتر.

ثم عاد يدور في الحجرة قائلا:

- لدينا قاتل بدرجة عالم فيروسات!

استدار مرة أخري لإدواردز متسائلا:

- ماذا عن مسرح الجريمة؟

اجاب إدواردز في سرعة:

- تم الحصول علي جهاز التسجيل الصوتي الذي كان يعمل عليه دكتور بيتر قبل قتله مباشرة وكان فحوى التسجيل خطيراً لأبعد الحدود.

ابتلع ريقه في صعوبة ثم أكمل:

- كان دكتور بيتر يعمل علي فيروس (إف 33) وهو أحد الفيروسات التي تصيب الكبد وكانت أبحاث دكتور بيتر تدور حول اكتشاف علاج له وقد ذكر شيئا بخصوص مادة تسمي (سي إف 7) وهي مادة مجهولة التركيب تماما كان دكتور بيتر يعزي صلابة هذا الفيروس إليها حيث توجد في غلافه البروتيني والأهم أننا لم نجد أي أثر لأنبوبة اختبار في الجهاز الموضوع أمام الجثة.

صمت دقيقة التقط فيها أنفاسه ثم أكمل:

- وكانت آخر كلمات سجلها الجهاز محيرة تماما.

ثم ضغط زر جهاز التسجيل الصوتي فانبعث الحوار الذي دار في الغرفة منذ أن دخلها بيتر.. وبعد أن انتهى ران صمت مهيب علي الاثنين ثم عاد جون يقول:

- إما أننا نتعامل مع شخص قمة في الإهمال وإما أننا نواجه قاتلا محترفا وليس عالما محترما.

ثم عاد لصمته دقائق ثم قال:

- هل هو بالسذاجة حيث ترك جهاز التسجيل الصوتي يعمل مع علمه بأنه شديد الحساسية وسيسجل كل كلمة ولو همسا؟! ثم هذا يضع أمامنا سؤالا آخر.. كيف سيستخدم البطاقة الإلكترونية؟!

صمت قليلا ثم برقت عيناه قائلا:

- أعد اجتماع عاجل بعلماء الفئة (ب).. لن ينتهي هذا الإجتماع إلا وقد عرفت من القاتل.

انصرف إدواردز في سرعة ليعد ذلك الإجتماع الطارئ، وبعد انصرافه غمغم جون في ضيق:

- هذا ما كان ينقصنا !!


******

انطلقت أجهزة التكييف تعمل في كل ركن من أركان القاعة الواسعة التي ضمت علماء الفئة (ب) مع رئيسهم "جون ماركوس" ومدير الأمن "إدواردز"، وساد سكون تام بين الجميع حتى استقر كل رجل في مكانه وارتفعت العيون في توتر لترمق رأس المائدة التي يحتلها ماركوس، حتى تنحنح هذا الأخير وقال بلهجة رصينة وحازمة:
- مرحبا أيها السادة.. يُسْعِدني أن نجتمع معا مجددا، ولكن ظروف هذا الاجتماع في الواقع ليست عادية على الإطلاق.

نجحت كلماته في بث أكبر قدر من التوتر والقلق في نفوس العلماء، الذين ارتسم على وجوههم مزيدا من الترقب، حتى أكمل إدواردز حديث ماركوس قائلا:
- زميلكم.. "بيتر".. قُتِلَ البارحة في غرفة الفحص والأشعة.

سرت همهمة وشهقات عنيفة بينهم فأسرع ماركوس يقول:
- حافظوا على تماسككم وهدوئكم.. الأمر لا يزال تحت السيطرة الكاملة.

ونصب إدواردز قامته وهو يقول في قوة:
- التحريات تجري الآن على قدم وساق لمعرفة هوية القاتل، وسنصل إليه إن آجلا أو عاجلا.. أعلم أن ما حدث قد يدل على وجود قصور في النظام الأمني ولكن يبدو أن القاتل استطاع دخول الحجرة بشكل طبيعي دون حدوث أي نوع من الاقتحام أو العنف.. وبمجرد أن استطاع الدخول، قتل بيتر ثم هرب.

غمغم أحدهم في عصبية شديدة:
- هل هذا يعني أن القاتل أحدنا؟

ارتفعت كلمات الاستنكار من زملائه فصاح إدواردز:
- اهدءوا.. هذا هو أول ما جال بخاطرنا أيضا.. فليس من المسموح دخول غرفة الفحص إلا لكم أنتم فقط.. وهذا قد يضعكم بالفعل في موضع شبهة لو لم نكن نعرفكم جيدا ونثق فيكم تماما.

وبرقت عيناه وهو يتابع في حسم:
- سيسقط القاتل في قبضتنا.. وفي أسرع وقت ممكن..

وعاد الصمت يغلف كل شيء..

*****