مملكة الإبداع

إنها مملكة أهديها إلى أعز الناس، وأحب الناس، وأغلى الناس، فهي من أرشدتني إلى إنشائها وإليها أهدي كل الكلمات..

عشرة أيام في الدفاع الجوي .. قصة حقيقية (الجزء الثاني)

وقفت شامخا قويا أستند إلى سلاحي على الرغم من انقلاب المكان كله، والأنوار التي أُضيئت في كل ركن من أركان الكتيبة، ووجدت سيارة جيب تتجه نحوي وعلى متنها مجموعة من الرجال يرتدون زي الجيش (الأفرول) ويحملون أسلحتهم وفي مقدمتهم ضابط عظيم يتطاير الشرر من عينيه وقد اسود وجهه وانتفش شعره على نحو مزري..

وفور أن اقتربت السيارة تعرفت عليه.. كان الضابط "عزيز".. ضابط مسيحي يحمل رتبة (ضابط عظيم) ويرتجف الجميع عساكر وضباط من مجرد ذكر اسمه.. توقفت السيارة أمام السلك الشائك وقفز منها الضباط ثم اتجه نحوي الضابط عزيز وقال في صرامة وهو يلوح بذراعيه:
سلم سلاحك حالا يا عسكري واجري ورا العربية.

تفجرت الدهشة في وجوه العساكر المصاحبين للضابط العظيم عندما أجبته بكل صرامة الدنيا والاحترام الواجب في الوقت نفسه:
أنا آسف سعتك يا فندم.

استشاط الرجل غضبا وصرخ بصوت هز المكان كله:
بتقول ايه يا عسكري؟؟

كررت في ثبات:
أنا آسف سعتك يا فندم.. سلاحي مش هسلمه غير بعد ما ورديتي تخلص وأمضي إني خلصتها وبعد كدة أكون تحت أمر حضرتك.

صرخ كالمجنون:
انت مش عارف انت عملت ايه يا عسكري؟؟ انت ضربت مساعد ضابط عظيم وجرحته.. عارف دة معناه إيه؟ انت مستنيك محاكمة عسكرية ومش بعيد تقضي بقية عمرك في السجن.. وخد بالك إنك كنت مهمل أثناء حراستك للمكان لدرجة إنه قرب منك ووقف وراك علطول وانت محستش بيه عشان كدة قرر يخبطك وينبهك لخطأك.. يعني كمان مستنيك عقوبة الإهمال..

لم أرد هذه المرة.. كنت أعلم يقينا أن عقوبة تسليم السلاح والانصراف قبل نهاية الخدمة معناها محاكمة عسكرية أشد قسوة وربما نهاية حياتي في ظلمات بلا قرار.. قفز الضابط عزيز مع العساكر إلى السيارة الجيب مرة أخرى وعادت من حيث أتت

في السادسة تماما عادت السيارة إليّ.. أوقفت العسكري الذي سيحل محلي وطالبته بكلمة السر.. ذكرها فتركته يقف مكاني وسلمت نفسي إلى الضابط عزيز.. أمرني بالجري خلف السيارة بلا توقف حتى نعود أدراجنا.. جريت حتى انقطعت أنفاسي ثم سلمت سلاحي للقيادة وزيلت الورقة بإمضائي على ذلك.. شعرت بالارتياح.. فليفعل هذا الضابط ما يشاء.. لقد انتهى الأمر..

أمر الضابط أحد عساكره بقص شعري تماما حتى صرت أصلع ثم أمر بتحويلي فورا إلى سجن العساكر..
هناك استقبلني الجميع بحفاوة غير عادية.. لم ينس أحدهم كيف جاهدت طويلا في سبيل الحصول على مستحقاتهم المادية المتأخرة.. رويت لهم ما حدث معي فقال لي بعضهم بمنتهى الثقة:
متقلقش.. الضابط عايش لما يعرف اللي حصلك هيقلب الدنيا.

لم أكترث.. ماذا يمكن أن يحدث أسوأ من هذا؟!

في الصباح الباكر وقفت في طابور المساجين.. ملابسي رثة، أصلع تماما، تحمل ملامحي قدرا هائلا من الإرهاق.. وقف الضابط عايش يراقب طابور العساكر.. لم يدر بخلده إطلاقا أنني أقف في طابور المساجين!!
دارت الأفكار في رأسه.. ترى لماذا لا يقف ممدوح في الطابور؟ ألم يذهب إلى الوردية؟ لقد أكدت عليه!

بعد الإفطار أرسلت عسكري زميلي ليشرح للضابط عايش ما حدث تفصيليا..
وانقلب كل شيء رأسا على عقب..

لم يكد الرجل يسمع بما حدث لي حتى احمر وجهه كاللهب واندفع نحو مكتب الضابط عزيز ثم ضرب الباب بقدمه ونظر شزرا إلى هذا الأخير وهو يصرخ بصوت هائل هز كل شيء وكل شخص حوله:
انت.. انت!! تجرؤ تهين عسكري عندي وتبهدله وتسجنه من غير محاكمة؟؟!

حاول الضابط عزيز أن يرد ولكن الغضب الهائل الذي تملك الضابط عايش كان أقوى من أي رد.. أسرع الجميع يهدئون من الموقف والضابط عايش يصرخ كالمجنون:
أبعته عشان يؤدي خدمته بدل الراجل اللي مش موجود.. وتسجنوه.. للدرجة دي بلغت بيكم السفالة!! للدرجة دي..

خرج الضابط عايش من مكتب الضابط عزيز إلى مكتب رئيس سلاح الدفاع الجوي مباشرة.. وهناك شرح له الموقف بالكامل وهو يغلي من الغضب.. فوجئت بالرئيس نفسه يرسل في طلبي لكي أحضر إلى مكتبه.. أمرني الضابط عايش ألا أقوم بتغيير ثيابي حتى يرى الرئيس ما حدث لي دون تعديل.. دلفت إلى مكتب رئيس الدفاع الجوي وضربت الأرض بقدمي وأنا اقف بجوار الضابط عايش وأقول في قوة:
تمام سيادتك يا فندم.

نهض الرجل عن مقعده ودار حولي وهو يتفرس في ملامحي.. شعرت بمدى الغضب المكتوم الذي اجتاحه عندما رآني على هذا الحال.. سألني بصوت أشبه بالفحيح:
الضابط عزيز هو اللي عمل فيك كدة؟

أجبت:
أيوا سيادتك يا فندم.

فوجئت به يصيح:
عسكري.. انت من اللحظة دي واخد أجازة 10 أيام بأمر مباشر مني.. انت فاهم؟!

أسرعت أؤدي التحية العسكرية وضربت الأرض ثم اندفعت أغادر المكتب.. عدت إلى غرفتي لكي أجهز ثيابي وأحصل على حمام ساخن يزيل عني الإرهاق الرهيب الذي أشعر به.. تعمدت المرور أمام حجرة الضابط عزيز أثناء توجهي إلى دورة المياه.. بل اخترت دورة المياة الملاصقة لغرفته بالتحديد كنوع من التحدي !!

وفي أثناء انصرافي من المكان عرفت أن القائد قد ارسل إلى الضابط عزيز وعنفه في شدة ثم عقد جلسة طارئة للتصالح بين الضابطين عزيز وعايش.. أطرقت برأسي وقلت في إيمان:
إن الله يدافع عن الذين آمنوا.

بقى أن أخبركم أن مساعد الضابط العظيم الذي ألقيته على السلك الشائك قد تعافى بسرعة وأصبحت أنا وهو صديقان حميمان حتى انصرافي من هذا المكان..

وكان فضل الله عليّ عظيما..

تمــت

4 التعليقات:

حقا مبهرة كما انت دائما
قصة روعة تعايشت معها بكل كياني
تسلم ايدك يادكتور
تحياتي لك

 

بص ,
هو بصرف النظر إن كانت قصة من تأليفك أو حقيقية , لأني مش عارف , فدي أول مرة أدخل المدونة ,

إلا أنها رائعة بجد ,
مافيهاش حشو زائد , و جذبتني من أول سطر ,
من الآخر ...
خلتني ( أفتح فمي ) إعجاباً

 

احم احم ...
دي حقيقية كمان !!
ربنا يكون في عونك !!

 

السلام عليكم ،

رائعة جداً يا دكتور ،
سلم قلمك وفكرك دائماً ..

في انتظار المزيد من إبداعاتكم ،
دمت بكل خير ..

 

إرسال تعليق