مملكة الإبداع

إنها مملكة أهديها إلى أعز الناس، وأحب الناس، وأغلى الناس، فهي من أرشدتني إلى إنشائها وإليها أهدي كل الكلمات..

عشرة أيام في الدفاع الجوي .. قصة حقيقية (الجزء الأول)

الأيام الأخيرة من شهر يناير - 1979
المكان: أحد كتائب الدفاع الجوي - جبل عتاقة

***

جلست في المكتب المكيف الخاص بالضابط "عايش" أحد كبار الضباط في سلاح الدفاع الجوي، وقد جلس أمامي هذا الأخير يراجع بعض الأوراق وهو ينفث دخان سيجارته في عمق..

انهمكت في كتابة أسماء العساكر في ملف ضخم بخط كبير وواضح وأنا أنفث دخان سيجارتي بدوري.. كان من ينظر إلى المكتب يظن أنني والضابط عايش زملاء في نفس الرتبة.. كلانا ينفث سيجارته ويمارس عمله ويضحك أحيانا في مرح ويتبادل الحديث مع الآخر بمنتهى الهدوء والثقة والأخوية.. ولكن الحقيقة أن رتبتنا مختلفة تمام الاختلاف ، فأنا مجرد عسكري جديد في المكان وهو أحد كبار الضباط في سلاح الدفاع الجوي..

كل ما جمعنا في هذا الموقف أن الرجل لمس داخلي الكثير من الأمانة والأخلاق ودقة العمل فعهد إليّ بكتابة أسماء العساكر الذين يؤدون خدمتهم العسكرية في الدفاع الجوي وتولي ما يلزم من ترتيبات لصرف مستحقاتهم المالية، فكنت بالتالي لا أتولى أي ورديات حراسة خارج المكتب وانحصر عملي كله في الأمور المكتبية والمالية..

في هذه اللحظة اتجه زميلي الآخر في المكتب نحو الضابط عايش وقال له في لهجة عسكرية تحمل الكثير من الاستعطاف:
بعد إذن سيادتك يا فندم ممكن أسافر النهاردة لأهلي في الفيوم وأرجع علطول أستلم ورديتي بليل؟

لم أكن أعرف أحدا أكثر طيبة وأخلاقا وتدينا من الضابط عايش فهو طويل قوي البنية أبيض البشرة شديد الحياء يتعامل مع الجميع بمنتهى الود والاحترام لذا فقد توقعت إجابته قبل ان ينطقها قائلا:
طيب مش عايزك تتأخر.. ورديتك من نص الليل بالظبط.. مش عايز تأخير دقيقة.

ضرب زميلي الأرض بقدمه ورفع يده بالتحية العسكرية وهو يهتف:
تمام سيادتك يا فندم.

وأسرع ينصرف فرفع الضابط عايش عينيه إليّ وقال مع ابتسامة رصينة:
اشرب الشاي يا "ممدوح".. عايز سيجارة؟

شكرته بشدة ثم تابعت عملي في هدوء ودقة..

***

نسيت أن أخبركم أن اسمي "ممدوح عبد الحي" وأنا عسكري في الدفاع الجوي وأحمل مؤهل متوسط.. رزقني الله تعالى بقدرات متميزة وخط جميل وقوة جسمانية وجسدا طويلا متناسقا حيث كنت أمارس رياضة كمال الأجسام لفترة..

قبل أن يحدث هذا الموقف الذي رويته لكم بعدة أيام كنت أمر على سجون العساكر عندما أخبرني بعضهم بأنهم لم يتلقوا مرتباتهم ومستحقاتهم المالية المتأخرة منذ فترة.. شعرت بالشفقة للحال الذي وصلوا إليه فحاربت بكل قوتي ووقفت ساعات طويلة في طوابير لا تنتهي لتسليم أوراقهم واستخراج مستحقاتهم المالية ثم سلمتها لهم.. كم أشفقت أنهم يعيشون شهورا طويلة في ظروف لا يتحملها بشر لمجرد أنهم اضطروا للتغيب يوما أو يومين أو تأخروا عن ميعاد الطابور اليومي فتمت احالتهم فورا إلى السجن.. وصرت منذ هذه اللحظة حبيبا إلى قلوبهم خصوصا حينما علموا بعلاقتي المقربة من الضابط عايش..

***

في نفس ذلك اليوم الذي سافر فيه زميلي إلى الفيوم وجدت الضابط عايش يزوم في مكتبه ويتحرك جيئة وذهابا في عصبية فسألته:
فيه حاجة ولا ايه؟

لوح بذراعيه وصاح:
"مصطفى" زميلك مرجعش لحد دلوقت وورديته قربت تبدأ.. احنا بنختار واحد بس من كل مكتب يوميا لحد ما نخلص كل المكاتب وبعدين نكرر نفس النظام.. أنا كنت كل مرة بختار مصطفى يطلع الوردية دي خصوصا انها شنجي.. عارف لو كانت برنجي أو كنجي يمكن كنت اتصرفت.. لكن كدة مصطفى هيحطنا في موقف محرج ولازم عسكري من مكتبنا يقف شنجي من نص الليل لحد الساعة 6 الصبح

ثم نهض واتجه نحوي وهو يقول في ضيق:
معلش يا ممدوح.. الظاهر مفيش حل تاني.. عايزك تخلص الوردية دي بدل مصطفى.. أنا عارف ان الشغل تقيل عليك وإنك مش ناقص لكن هعمل ايه..

قفزت واقفا أؤدي التحية العسكرية وقلت في قوة:
أكيد يا فندم.. كفاية إن حضرتك اللي كلفتني بكدة.. تحت أمرك..

سلمت نفسي للقيادة فقامت على الفور بتوزيعي لحراسة مخزن الوقود والمتفجرات.. حملت سلاحي واتجهت لتسلم الوردية من زميلي البرنجي.. ألقيت عليه كلمة السر ثم وقفت مكانه.. لم يكن هناك أحد في المكان على الإطلاق والبرد قارص إلى الحد الذي يجعل ملابسي تتجمد فوق جسدي وتلتصق به.. ظللت أتحرك جيئة وذهابا في المكان.. وبالطبع كان من الجنون إشعال النار بحثا عن التدفئة وأنا أحرس مخزن الوقود!

سيطر الهدوء على المكان إلا من صفير الرياح وقد بدأت أجفاني تتثاقل ويغلبني النعاس ولم أعد قادرا على الحركة.. جلست لحظات حتى اقترب وقت الفجر ثم نهضت أستدير ففوجئت برجل ضخم أمامي يهوي على صدري بكفه بلكمة كالقنبلة.. تراجعت خطوتين ثم اندفعت نحوه أقبض على مؤخرة عنقه وساعده ودفعته بكل قوتي نحو الأسلاك الشائكة المحيطة بالمكان.. صرخ الرجل في رعب وهو يرى جسده يندفع نحو أطراف السلك المدببة ثم تحولت صرخته إلى ألم هائل حينما انغرست في مواضع شتى من جسده وتفجرت الدماء تغرق ثيابه.. فوجئت به يرفع صفارة كبيرة إلى شفتيه ثم ينفخ فيها بكل قوته لتشق هدوء الفجر وتنتزع الجميع من أماكنهم.. وفي نفس اللحظة قفز العسكري المسئول عن جرس الإنذار الضخم الخاص بالطوارئ القصوى يجذبه إلى أسفل..

وفي لحظة واحدة تحول المكان إلى خلية نحل وبدأت أدرك فداحة ما فعلت.. نزع الرجل نفسه من السلك الشائك وانطلق يعدو وهو يصرخ بكل قوته.. اتسعت عيناي بكل ذعر الدنيا وقد أدركت حقيقة هذا الشخص الذي كدت اقتله..

كان مساعد ضابط عظيم !!

(نهاية الجزء الأول)

3 التعليقات:

دائما ما تطل علينا بجديد رائع ومتميز يادكتور
قصة راااائعة تحمل بين ثناياها جاذبية بلا حدود تجعلنا متشوقين للقادم فلا تجعلنا نطيل الانتظار
تحياتي وخالص احترامي

 

أنارت المدونة بمرورك كما تفعل دائما ..

جزاكم الله خيرا وبارك فيكم ،،

 

السلام عليكم ،

ما شاء الله ،
كعادة أسلوبك يا دكتور يفوق الروعة ،
متابعين بإذن الله ،

موفق بإذن الرحمان ،
وفي انتظار المزيد دائماً وبكل شغف ..

دمت بكل خير .

 

إرسال تعليق