مملكة الإبداع

إنها مملكة أهديها إلى أعز الناس، وأحب الناس، وأغلى الناس، فهي من أرشدتني إلى إنشائها وإليها أهدي كل الكلمات..

قـــرار يعني لي الكثير

البارحة - الحادية عشرة ليلا

"محمد لو سمحت الأوردر دة مستعجل .. عندك ملف في مكاننا المعتاد باسم الباشمهندس (............) .. افتحه وعدل المقاس بتاعه خليه 130 في 50 .. ونقيله خلفية على ذوقك .. عايزين نبعته المطبعة النهاردة"

نطقها الباشمهندس مصطفى بسرعة كالمعتاد وهو يضع أمامي ورقة صغيرة تحمل الأوردر الجديد.. كنت قد بدأت أشعر بالإرهاق ولكنني وجدت الأمر بسيطا إلى الحد الذي يجعله لا يستغرق اكثر من نصف الساعة.. التقطت الورقة وبدأت العمل مجيبا:

"أوك يا باشمهندس .. حالا"

كنت المصمم الوحيد في الشركة بعد أن انصرف زميلي أحمد وزميلتي سمر ولم يحضر زميلي الآخر باسم.. في الداخل بالقرب من المطبعة كان عمال الطباعة ينقلون الأوراق من مكان إلى آخر.. لم يتبق من العمال بعد انصراف الجميع سوى اثنان.. وكلاهما اسمهما أحمد.. وبالطبع انصرفت المسئولة عن استقبال العملاء منذ وقت مبكر..

انهمكت في تنفيذ الأوردر لمدة نصف ساعة تقريبا.. لم أكد أنتهي وأحفظ عملي حتى انقطع التيار الكهربي فجأة عن المكان.. حمدت الله على أنني حفظت العمل قبل قطع الكهرباء.. استمر الانقطاع دقائق قليلة ثم عادت الأضواء تغمر المكان.. نظرت في ساعتي فإذا بها قد دقت الحادية عشرة والنصف..

قررت أن أنصرف.. لم يكن هناك أي أوردرز أخرى لتنفيذها، والوقت تأخر وتركيزي انخفض إلى ما يقرب من الصفر.. سألت أحد الأحمدين عن المهندس مصطفى فأخبرني أنه يطبع بعض الكروت بالداخل.. وقفت أمام باب غرفته ثم طرقته في هدوء.. سمعت صوته من الداخل:

ايوا .. مين

أنا يا باشمهندس

فيه حاجة يا محمد؟

خلاص خلصت الأوردر.. تسمحلي أستأذن؟

طب معلش استناني دقايق يا محمد وطالع بعد إذنك

أوك

كنت مرهقا بشكل يفوق كل الأيام منذ التحقت بهذا العمل.. بالطبع لم تمر فترة طويلة على هذا فقد أكملت بالكاد يومي الحادي عشر على عملي هذا، ولكن هذا اليوم بلا شك كان أكثرهم إرهاقا..

ألقيت جسدي على أقرب مقعد وأغمضت عينيّ.. وجدت المهندس مصطفى يخرج إليّ ويقول:
نعم يا محمد؟

كنت بقول لحضرتك هستأذن

طيب اللوحة بتاعة مدرس الإنجليزي.. انت خلصتها خلاص ما ناقصش غير إنها تتبعت للمطبعة.. معلش ابعتها الأول

أومأت برأسي.. كان هذا يعني أنني سأضطر لتشغيل جميع أجهزة الشبكة وإرسال الملف عبرها.. استمر الأمر فترة طويلة أصابني الملل خلالها.. دائما ما يتوقف إرسال الملف بلا سبب عدة مرات.. نهضت في ضجر وقلت لنفسي:
كفاية كدة

راعني أن اشارت عقارب الساعة إلى الواحدة إلا الربع.. تركت المهندس مصطفى يتولى مسئولية هذا العطب الذي يمنع إرسال الملف وانصرفت.. انتظرت طويلا في الموقف الخاص بمكروباصات مدينة 15 مايو.. وفي النهاية وجدت مكانا خاليا في أحدهم وإن لم يكن سيذهب مباشرة إلى حيث مسكني وسأضطر للمسير قليلا بعد ذلك لكنني لم اهتم.. رغم أن المسير في مدينتي شتاء بعد الواحدة ليلا مجرد ضرب من الجنون حيث لا يوجد بشري واحد في الشوارع..

وطوال الطريق راحت الأفكار تتدفق في رأسي لتكون قرارا قويا وحازما..

تذكرت كيف أصررت على البحث عن عمل.. وكيف كان هذا الأمر يمثل لي أولوية كبيرة حتى أنني سألت أحد الزملاء عن العمل كمصمم فأرشدني إلى هذا المكان الذي أعمل فيه الآن.. وتذكرت كيف فهمت قواعد العمل واندمجت فيه بعد مرور أيام قليلة حتى صار جزءا كبيرا منه ملقى على عاتقي.. وتذكرت كيف لم أهتم إطلاقا بالناحية المادية حتى أنني لم اتساءل لحظة عن مرتبي حتى اخبرني به صاحب العمل ذات مرة.. لأن طموحاتي من العمل لم تكن مادية بل كانت إثبات لنفسي أنني يمكن أن أستقل بها وأن أتحرر ماديا وأكتسب خبرات من العمل والاحتكاك في الوقت نفسه، بل والأهم أن أستطيع التوفيق بين العمل ودراستي في كلية الطب!

ثم تذكرت كيف كان والدي معترضا بشدة على هذا الأمر وكيف حاول بكل الطرق إثنائي عنه لكنني كنت مصمما بشكل يفوق كل وصف.. تركني أخوض التجربة بنفسي.. وكنت سعيدا بها حتى بدأت المعالم السلبية تتضح بشكل لم أكن لأفهمه إلا إذا اندمجت مع حياة العمل..

هل كنت مخطئا عندما قررت أن أعمل - كمصمم جرافيك - وأدرس - بكلية الطب - في نفس الوقت؟؟

وفي أعماقي تردد هذا السؤال الذي سألني إياه أحد اقرب أصدقائي:
أيهما تفضل..
أن تبقى أثناء فترة دراستك تحت الرعاية المالية لأسرتك وأن يوجهوك - بالتالي - إلى ما يتوافق مع مصلحتك حتى وإن كانت وجهات نظرهم لا تتفق معك وحتى إنت كنت ترى مصلحتك في أشياء أخرى غير ما يريدون؟ فهم في النهاية لن يضروك إن لم يفيدوك
أم تفضل..
أن ترتبط اثناء دراستك بقواعد العمل والبيزنس الذي لا يرحم ، وأن تعمل مع من لا يرى فيك إلا محركا للإنتاج ولا يريد منك إلا ما يحقق مصلحته حتى وإن كان هذا يتعارض مع مصلحتك؟ حتى وإن كان شخصا محترما

ضربت زجاج المكروباص بيدي على نحو مسموع وملحوظ أثار دهشة من يجلسون بجواري خصوصا عندما ضغطت على شفتيّ باسناني.. صرخت في أعماقي:
ماذا دهاك هذه المرة؟!
أين مقاييس حكمك وتقديرك للأمور؟
لماذا اختلت على هذا النحو العنيف؟

كل هذا لأنك تريد أن تستقل بحياتك ماديا وتبتعد عن جو الدراسة والطلبة والتعليم ونظامه المعقد السخيف الذي لم تكره شيئا سواه؟
أنت في النهاية مرتبط به في كل الأحوال..

ثم ما أدراك أن زهوة المال وشهوة الاستقلال لن تجرفك إلى ما هو أسوأ وتهمل حياتك الحقيقية كطالب تماما كما حدث مع الكثيرين من قبلك.. حتى إن كنت تستنكر ذلك على نفسك الآن.. لا تقل لي أنك تضمن نفسك الأمارة بالسوء!

لم لا تصبر وتترك كل شيء على طبيعته.. ربما وجدت فرصة للعمل في فترة الأجازة الصيفية أفضل كثيرا من هذه..
ولكن ربما لا .. لماذا أترك فرصة كهذه تفلت من بين اصابعي بعد أن أصبحت ملكي.. فلتتحمل شهرا أو شهرين حتى تحجز لنفسك مكانا مميزا في العمل ثم فليكن ما يكون..

وهل تظن أن العمل الخاص يعترف بهذه الأمور؟ لو تغيبت يوما أو يومين سينقلب كل شيء وسيأتي من يحل محلك.. وبالتأكيد ستضطر إلى التغيب على الأقل في فترة الامتحانات.. أنت تقضي ثمانية ساعات كاملة في هذا العمل اللعين!

ولكن من يضمن لي فرصة كهذه في الأجازة الصيفية مثلا؟
وهل يتوقف العمل عند حد؟ العمل لا يتوقف ابدا.. ولكن دراستك لن تعوض.. ولو تعثرت فلن تعوضك كل أموال الدنيا..

(ارمي حمولك على ربنا يابني)..

ترددت هذه الكلمة بصوت أبي في عقلي فجعلتني أبتسم.. نعم.. لم تفكر في هذا السؤال؟.. إذا صدقت الله النية فسيوفقك في دراستك وسيوفقك في عمل مناسب إن شاء الله في وقت فراغك وأجازاتك.. هذا هو صوت المنطق..

ثم ما الذي يضمن لك أن تأخيرك في العمل حتى الثانية صباحا لن يحدث في أيام تكون أحوج ما تكون فيها إلى دقيقة واحدة تستعد فيها للامتحانات؟! اليس هذا واردا؟

شعرت برأسي قد تورمت فنزلت من المكروباص وأسرعت أسير وسط الشوارع الخالية تماما في هذا الوقت المتأخر والبرد القارص يحاول اختراق ثيابي الكثيفة لينفذ إلى عظامي.. وفي رأسي تفجر هذا السؤال كالقنبلة ألف مرة..

أليس هذا واردا أيها العبقري؟!

شعرت بالسخرية في أعماقي وتصاعدت هذه السخرية إلى شفتيّ فارتسمت عليهما ابتسامة مريرة.. أي عقل هذا الذي يستطيع تحمل ضغوط العمل المستمرة وضغوط الامتحانات خصوصا في الراوند القادم حيث يرتبط الحضور بالدرجات ولا مجال للتهاون؟! هل تظن نفسك سوبر مان؟

تذكرت أيضا كيف كنت واثقا وأنا أخبر أمي أنني بداية من الراوند القادم سأنهي يومي الدراسي في السيدة زينب لأتجه إلى عملي في حلوان مباشرة دون أن أتناول غدائي ودون أن أعود إلى المنزل.. وكنت بالفعل أنوي الاستمرار بهذا النظام الذي بغض النظر عما سيؤدي إليه من الانهيار الجسدي الحتمي فهو بالتأكيد لن يمنحني لحظة واحدة تصلح لمذاكرة دروسي..

شعرت بصوت الرياح تعلن لحظة الاستسلام للواقع واتخاذ القرار الحتمي الذي حاولت بكل قوتي تفاديه..

وشعرت بعيني ّ تتألقان وقلت لنفسي بصوت مسموع صبغته بكل حزم وقوة الكون:
كل شيء بوقته .. لا تتعجل .. كل شيء بوقته .. والله وحده أعلم بما سيحدث في مستقبلك .. وقد تنجح وتحقق ما لم تكن تحلم به في مجالات عديدة.. وقد لا تفعل أي شيء.. وقد تكون حياتك أقصر كثيرا من كل ذلك.. دع الأمور لله سبحانه وتعالى بالله عليك ولا تحمل نفسك من الأمر ما لا تطيق..

وفي اليوم التالي الذي هو اليوم ظهرا شعرت بقدر هائل من الارتياح عندما أخبرت زميلي أحمد هاتفيا بأنني قد تركت العمل للتركيز في دراستي.. وكانت ابتسامة أبي وسعادة أمي بانتهاء هذا الوضع فصل الختام.. مؤقتا..

الساعة الأولى بعد منتصف الليل من يوم 22/12/2010

4 التعليقات:

أضيق السجون أن يعيش انسان حبيس فكرة غير موفقة أو قرار خاطئ يتخذه و يصر عليه، و أكبر مقومات النجاح - وجهة نظري - هي المرونة و الرؤية المستقبلية.

حقيقة هذا المقال درس في حسن التصرف يمكن أن نعنون له بعنوان " حكمة شاب عنيد" (:

تمنياتي لك بالتوفيق و النجاح في كل خطواتك

 

صدقت

أحمد الله أنه حررني من سجن هذه الفكرة وأعانني على التعامل مع الموقف بالمرونة المطلوبة

جزاك الله خيرا صديقي العزيز
:)

 

السلام عليكم

وفقك الله تعالي للطريق الصحيح دائما يادكتور ويجعل لك الخير حيث تضع قدميك
تقبل مروري وخالص احترامي

 

بارك الله فيكم كارمن
اللهم آمين

تحياتي لشخصك الكريم ،،

 

إرسال تعليق