مملكة الإبداع

إنها مملكة أهديها إلى أعز الناس، وأحب الناس، وأغلى الناس، فهي من أرشدتني إلى إنشائها وإليها أهدي كل الكلمات..

الختـــام .. ثـــورة

تحجرت الدموع في عينيّ كهل وقور وقف شامخا قويا يستقبل الجموع التي جاءت تلبية لواجب العزاء في ولده الحبيب، في حين وقف إلى جواره شابان يبدو عليهما الشحوب والحزن الشديد يستقبلان الناس معه، وارتفعت آيات من الذكر الحكيم تدوي لتشق ذلك السكون الذي خيم على المكان مع عدد لا نهائي من أقداح القهوة والشاي وأكواب المياه..

ووسط هذا الجو الكئيب تعلقت العيون بذلك الرجل الأشيب قوي الملامح والجسد، الذي يرتدي حلة سوداء أنيقة ويشق طريقه نحو الكهل مباشرة ويربت عليه قائلا في تعاطف:
البقاء لله وحده يا حاج محفوظ.

لم يكن أحد يعلم أن هذا الرجل الأشيب من أخطر رجال الدولة كلها، ولا أنه يحمل رتبة وزير ويعمل تحت قيادة السيد رئيس الجمهورية مباشرة، لأن طبيعة عمله تقتضي الخبرة والسرية وعلى قدر هائل من الأهمية، فهو مدير المخابرات العامة المصرية شخصيا..
أما هذا الكهل فهو والد جلال..

وفي صلابة شد الكهل على يديّ الرجل وأجاب:
الدوام لله

ابتسم الرجل وتابع:
لقد مات ابنك بطلا قوميا نحتسبه عند الله من الشهداء الأبرار، ولقد انتقل إلى مثواه الأخير ملفوفا بعلم مصر وشيع جنازته ما يزيد على العشرين ألفا.

قال الكهل بنفس الصلابة:
جزاكم الله خيرا.

ثم أخرج من جيبه ورقة مطوية أعطاها للأشيب متابعا:
هذه صورة.. وأنا أحتفظ بالأصل.. أرجو أن تقرأها.

هز الرجل رأسه إيجابا وهو يلتقط الورقة مجيبا:
سأفعل بإذن الله.

ثم انصرف بخطوات سريعة فتقدم الشابان نحو الكهل وقال أحدهما بصوت مختنق:
لقد كان جلال حبيبا إلى قلوبنا جميعا يا عمي محفوظ.

رفع الكهل عينيه إليه وأجاب:
أعلم هذا يا إبراهيم.

قال الشاب الآخر - الذي لم يكن سوى فهمي - في خفوت:
نسأل الله أن يلهمك الصبر.

وعاد الصمت يخيم على كل شيء حتى ختم القارئ تلاوته:
صــدق الله العظيـــم.

***

وقف مدير المخابرات ممشوق القوام أمام رجاله وقد وضع الورقة التي أخذها من الحاج محفوظ على البروجكتور لتظهر أمام الجميع بوضوح، وقال:
هذه هي الكلمات التي كتبها الشهيد جلال قبل أن يبدأ مهمته.. لم يكن يعلم أنه سيموت شهيدا ساجدا لله تعالى.. هذه الكلمات بمثابة مصباح ينير الطريق لكل من يهب حياته لخدمة دينه ووطنه.

وفي صوت قوي قرأ المدير:
بســــم الله الرحمـــــن الرحيــــــم
اسمي جلال محفوظ.. لم أهتم يوما بالكتابة عن نفسي ولم أكن أظن أني سأحتاج إلى هذا، فأنا شاب تقليدي يعيش نفس الظروف التي يعيشها الملايين من أمثاله.. لم يكن لي هدف أو طموح أو قدوة في الحياة لذا لم أهتم لا بالمذاكرة ولا بالبحث عن عمل ولا بتنمية مواهبي، ولكنني انشغلت عن كل هذا باللعب واللهو والجلوس على القهاوي بلا حساب.. ارتكبت الكثير من المعاصي والآثام.. كذبت، نافقت، رافقت عدة فتيات فكلما مللت من واحدة منهن أذهب إلى غيرها.. حتى في المرة الوحيدة التي تعلمت فيها شيئا ما عكفت على تعلم علم الاختراق والشبكات لأغراض سيئة أو حتى غير أخلاقية! .. نصحني أبي كثيرا وطويلا بالتوبة لكنني لم أستجب أبدا.. لذا فقد كنت نسخة من ملايين النسخ التي تعج بها مصر..

أقول - والحمد لله - أنني كنت كذلك، فاليوم عرفت طريقي وحددت هدفي وتوقفت عن كل ما يغضب الله، والتزمت بصلاتي وعبادتي، فأنا اليوم بكل تأكيد شخص مختلف تماما..
لم أكن أعلم أن الوقت الذي قضيته في احتراف علم الاختراق سيكون سببا في نقلي من ظلام التشتت إلى نور اليقين.. إنني أحمد الله في كل لحظة أن أرسل إليّ في الوقت المناسب من يوجه موهبتي إلى الاتجاه السليم ويعينني على نصرة ديني ووطني، فتركت تلقائيا كل ما هو سيء وتحولت إلى إنسان آخر..

غدا بإذن الله أعظم ايام حياتي.. سأواجه أعداء الله وأعداء مصر وسأستغل موهبتي في القضاء عليهم حتى لو كان هذا آخر ما أفعله في حياتي.. ولعل الله يغفر لي بذلك ما ارتكبته من آثام وأخطاء في الماضى.

ثم طوى المدير الورقة وقال في قوة وفخر:
ها هو ذا بطل جديد يسقط من أجل مصر.

طرق أحد الرجال باب المكتب ثم دفعه وأسرع يقدم تقريرا جديدا إلى المدير دون أن ينطق بحرف واحد، فأسرع المدير بدوره يلتهم التقرير بعينيه ثم هتف في دهشة:
سبحانك يا رب! هل تصدقون هذا؟!

أصغى إليه الجميع في ترقب وهو يتابع في انفعال:
لقد تم نشر خبر استشهاد جلال عبر الفيس بوك باعتباره بطلا قوميا ومعه شرح تفصيلي للدور الخفي الذي يقوم به الفيس بوك في تدمير الشباب العربي ومقتل هذا الشاب البطل على يد من يديرون هذا المخطط خوفا من انكشاف الأمر، وقد أثار الخبر موجات هائلة من الغضب العربي وقامت أكبر حركة مقاطعة لهذا الموقع العالمي في التاريخ كبدت أمريكا وأوروبا وغيرهما اضرارا فادحة فأسرعوا يغلقون كل المجموعات والصفحات المشتبه في كونها ضد الشباب العربي، على نحو جعل كبرى الصحف والمواقع العالمية تنقل ما يحدث إلى كل مكان، تحت عنوان مثير للغاية.

واستطرد في انفعال هائل هذه المرة:
ثورة على الفيس بوك.

وضرب سطح المكتب بقبضته في قوة وهو يتابع:
انظروا كيف أثر شاب واحد كل هذا التأثير على الملايين في كل مكان في العالم حتى بعد وفاته! من يتصور هذا؟!

وفي أعماق الجميع نما ذلك الشعور الجميل بالاعتزاز والفخر والاطمئنان..
كل الاطمئنان..
والخشوع..

4 التعليقات:

السلام عليكم ،

ماشاء الله يا دكتور ،
نهاية رائعة وهدف نتمناه جميعاً ..

ليتها حقيقية ،
بارك الله فيكم ،
وجزاكم كل خير ..

خالص إحترامي وتقديري ،
دمت بكل خير ..

 

طوال القصة وانا اجاهد الا تفر دمعة من عيني وكأني كنت احجزها لهذا الفصل
نهاية رائعة يادكتور
حقا اثرت في بشدة
نفس احساس نهاية موعد مع الكرامة
قلم رائع لشخص اروع تسلم ايدك يادكتور
تحياتي العطرة

 

فراشة زرقا ..
جزاكم الله خيرا وبارك فيكم

نعم أنا أيضا اتمنى أن تكون حقيقية

تقبلي اطيب تحياتي لمرورك ومتابعتك الدائمة ،،

 

كارمن ..
ليس بأروع من مرورك

بارك الله فيكم وجزاكم الله خيرا لتفاعلك وتقديرك

خالص تحياتي ،،

 

إرسال تعليق