مملكة الإبداع

إنها مملكة أهديها إلى أعز الناس، وأحب الناس، وأغلى الناس، فهي من أرشدتني إلى إنشائها وإليها أهدي كل الكلمات..

عشرة أيام في الدفاع الجوي .. قصة حقيقية (الجزء الثاني)

وقفت شامخا قويا أستند إلى سلاحي على الرغم من انقلاب المكان كله، والأنوار التي أُضيئت في كل ركن من أركان الكتيبة، ووجدت سيارة جيب تتجه نحوي وعلى متنها مجموعة من الرجال يرتدون زي الجيش (الأفرول) ويحملون أسلحتهم وفي مقدمتهم ضابط عظيم يتطاير الشرر من عينيه وقد اسود وجهه وانتفش شعره على نحو مزري..

وفور أن اقتربت السيارة تعرفت عليه.. كان الضابط "عزيز".. ضابط مسيحي يحمل رتبة (ضابط عظيم) ويرتجف الجميع عساكر وضباط من مجرد ذكر اسمه.. توقفت السيارة أمام السلك الشائك وقفز منها الضباط ثم اتجه نحوي الضابط عزيز وقال في صرامة وهو يلوح بذراعيه:
سلم سلاحك حالا يا عسكري واجري ورا العربية.

تفجرت الدهشة في وجوه العساكر المصاحبين للضابط العظيم عندما أجبته بكل صرامة الدنيا والاحترام الواجب في الوقت نفسه:
أنا آسف سعتك يا فندم.

استشاط الرجل غضبا وصرخ بصوت هز المكان كله:
بتقول ايه يا عسكري؟؟

كررت في ثبات:
أنا آسف سعتك يا فندم.. سلاحي مش هسلمه غير بعد ما ورديتي تخلص وأمضي إني خلصتها وبعد كدة أكون تحت أمر حضرتك.

صرخ كالمجنون:
انت مش عارف انت عملت ايه يا عسكري؟؟ انت ضربت مساعد ضابط عظيم وجرحته.. عارف دة معناه إيه؟ انت مستنيك محاكمة عسكرية ومش بعيد تقضي بقية عمرك في السجن.. وخد بالك إنك كنت مهمل أثناء حراستك للمكان لدرجة إنه قرب منك ووقف وراك علطول وانت محستش بيه عشان كدة قرر يخبطك وينبهك لخطأك.. يعني كمان مستنيك عقوبة الإهمال..

لم أرد هذه المرة.. كنت أعلم يقينا أن عقوبة تسليم السلاح والانصراف قبل نهاية الخدمة معناها محاكمة عسكرية أشد قسوة وربما نهاية حياتي في ظلمات بلا قرار.. قفز الضابط عزيز مع العساكر إلى السيارة الجيب مرة أخرى وعادت من حيث أتت

في السادسة تماما عادت السيارة إليّ.. أوقفت العسكري الذي سيحل محلي وطالبته بكلمة السر.. ذكرها فتركته يقف مكاني وسلمت نفسي إلى الضابط عزيز.. أمرني بالجري خلف السيارة بلا توقف حتى نعود أدراجنا.. جريت حتى انقطعت أنفاسي ثم سلمت سلاحي للقيادة وزيلت الورقة بإمضائي على ذلك.. شعرت بالارتياح.. فليفعل هذا الضابط ما يشاء.. لقد انتهى الأمر..

أمر الضابط أحد عساكره بقص شعري تماما حتى صرت أصلع ثم أمر بتحويلي فورا إلى سجن العساكر..
هناك استقبلني الجميع بحفاوة غير عادية.. لم ينس أحدهم كيف جاهدت طويلا في سبيل الحصول على مستحقاتهم المادية المتأخرة.. رويت لهم ما حدث معي فقال لي بعضهم بمنتهى الثقة:
متقلقش.. الضابط عايش لما يعرف اللي حصلك هيقلب الدنيا.

لم أكترث.. ماذا يمكن أن يحدث أسوأ من هذا؟!

في الصباح الباكر وقفت في طابور المساجين.. ملابسي رثة، أصلع تماما، تحمل ملامحي قدرا هائلا من الإرهاق.. وقف الضابط عايش يراقب طابور العساكر.. لم يدر بخلده إطلاقا أنني أقف في طابور المساجين!!
دارت الأفكار في رأسه.. ترى لماذا لا يقف ممدوح في الطابور؟ ألم يذهب إلى الوردية؟ لقد أكدت عليه!

بعد الإفطار أرسلت عسكري زميلي ليشرح للضابط عايش ما حدث تفصيليا..
وانقلب كل شيء رأسا على عقب..

لم يكد الرجل يسمع بما حدث لي حتى احمر وجهه كاللهب واندفع نحو مكتب الضابط عزيز ثم ضرب الباب بقدمه ونظر شزرا إلى هذا الأخير وهو يصرخ بصوت هائل هز كل شيء وكل شخص حوله:
انت.. انت!! تجرؤ تهين عسكري عندي وتبهدله وتسجنه من غير محاكمة؟؟!

حاول الضابط عزيز أن يرد ولكن الغضب الهائل الذي تملك الضابط عايش كان أقوى من أي رد.. أسرع الجميع يهدئون من الموقف والضابط عايش يصرخ كالمجنون:
أبعته عشان يؤدي خدمته بدل الراجل اللي مش موجود.. وتسجنوه.. للدرجة دي بلغت بيكم السفالة!! للدرجة دي..

خرج الضابط عايش من مكتب الضابط عزيز إلى مكتب رئيس سلاح الدفاع الجوي مباشرة.. وهناك شرح له الموقف بالكامل وهو يغلي من الغضب.. فوجئت بالرئيس نفسه يرسل في طلبي لكي أحضر إلى مكتبه.. أمرني الضابط عايش ألا أقوم بتغيير ثيابي حتى يرى الرئيس ما حدث لي دون تعديل.. دلفت إلى مكتب رئيس الدفاع الجوي وضربت الأرض بقدمي وأنا اقف بجوار الضابط عايش وأقول في قوة:
تمام سيادتك يا فندم.

نهض الرجل عن مقعده ودار حولي وهو يتفرس في ملامحي.. شعرت بمدى الغضب المكتوم الذي اجتاحه عندما رآني على هذا الحال.. سألني بصوت أشبه بالفحيح:
الضابط عزيز هو اللي عمل فيك كدة؟

أجبت:
أيوا سيادتك يا فندم.

فوجئت به يصيح:
عسكري.. انت من اللحظة دي واخد أجازة 10 أيام بأمر مباشر مني.. انت فاهم؟!

أسرعت أؤدي التحية العسكرية وضربت الأرض ثم اندفعت أغادر المكتب.. عدت إلى غرفتي لكي أجهز ثيابي وأحصل على حمام ساخن يزيل عني الإرهاق الرهيب الذي أشعر به.. تعمدت المرور أمام حجرة الضابط عزيز أثناء توجهي إلى دورة المياه.. بل اخترت دورة المياة الملاصقة لغرفته بالتحديد كنوع من التحدي !!

وفي أثناء انصرافي من المكان عرفت أن القائد قد ارسل إلى الضابط عزيز وعنفه في شدة ثم عقد جلسة طارئة للتصالح بين الضابطين عزيز وعايش.. أطرقت برأسي وقلت في إيمان:
إن الله يدافع عن الذين آمنوا.

بقى أن أخبركم أن مساعد الضابط العظيم الذي ألقيته على السلك الشائك قد تعافى بسرعة وأصبحت أنا وهو صديقان حميمان حتى انصرافي من هذا المكان..

وكان فضل الله عليّ عظيما..

تمــت

عشرة أيام في الدفاع الجوي .. قصة حقيقية (الجزء الأول)

الأيام الأخيرة من شهر يناير - 1979
المكان: أحد كتائب الدفاع الجوي - جبل عتاقة

***

جلست في المكتب المكيف الخاص بالضابط "عايش" أحد كبار الضباط في سلاح الدفاع الجوي، وقد جلس أمامي هذا الأخير يراجع بعض الأوراق وهو ينفث دخان سيجارته في عمق..

انهمكت في كتابة أسماء العساكر في ملف ضخم بخط كبير وواضح وأنا أنفث دخان سيجارتي بدوري.. كان من ينظر إلى المكتب يظن أنني والضابط عايش زملاء في نفس الرتبة.. كلانا ينفث سيجارته ويمارس عمله ويضحك أحيانا في مرح ويتبادل الحديث مع الآخر بمنتهى الهدوء والثقة والأخوية.. ولكن الحقيقة أن رتبتنا مختلفة تمام الاختلاف ، فأنا مجرد عسكري جديد في المكان وهو أحد كبار الضباط في سلاح الدفاع الجوي..

كل ما جمعنا في هذا الموقف أن الرجل لمس داخلي الكثير من الأمانة والأخلاق ودقة العمل فعهد إليّ بكتابة أسماء العساكر الذين يؤدون خدمتهم العسكرية في الدفاع الجوي وتولي ما يلزم من ترتيبات لصرف مستحقاتهم المالية، فكنت بالتالي لا أتولى أي ورديات حراسة خارج المكتب وانحصر عملي كله في الأمور المكتبية والمالية..

في هذه اللحظة اتجه زميلي الآخر في المكتب نحو الضابط عايش وقال له في لهجة عسكرية تحمل الكثير من الاستعطاف:
بعد إذن سيادتك يا فندم ممكن أسافر النهاردة لأهلي في الفيوم وأرجع علطول أستلم ورديتي بليل؟

لم أكن أعرف أحدا أكثر طيبة وأخلاقا وتدينا من الضابط عايش فهو طويل قوي البنية أبيض البشرة شديد الحياء يتعامل مع الجميع بمنتهى الود والاحترام لذا فقد توقعت إجابته قبل ان ينطقها قائلا:
طيب مش عايزك تتأخر.. ورديتك من نص الليل بالظبط.. مش عايز تأخير دقيقة.

ضرب زميلي الأرض بقدمه ورفع يده بالتحية العسكرية وهو يهتف:
تمام سيادتك يا فندم.

وأسرع ينصرف فرفع الضابط عايش عينيه إليّ وقال مع ابتسامة رصينة:
اشرب الشاي يا "ممدوح".. عايز سيجارة؟

شكرته بشدة ثم تابعت عملي في هدوء ودقة..

***

نسيت أن أخبركم أن اسمي "ممدوح عبد الحي" وأنا عسكري في الدفاع الجوي وأحمل مؤهل متوسط.. رزقني الله تعالى بقدرات متميزة وخط جميل وقوة جسمانية وجسدا طويلا متناسقا حيث كنت أمارس رياضة كمال الأجسام لفترة..

قبل أن يحدث هذا الموقف الذي رويته لكم بعدة أيام كنت أمر على سجون العساكر عندما أخبرني بعضهم بأنهم لم يتلقوا مرتباتهم ومستحقاتهم المالية المتأخرة منذ فترة.. شعرت بالشفقة للحال الذي وصلوا إليه فحاربت بكل قوتي ووقفت ساعات طويلة في طوابير لا تنتهي لتسليم أوراقهم واستخراج مستحقاتهم المالية ثم سلمتها لهم.. كم أشفقت أنهم يعيشون شهورا طويلة في ظروف لا يتحملها بشر لمجرد أنهم اضطروا للتغيب يوما أو يومين أو تأخروا عن ميعاد الطابور اليومي فتمت احالتهم فورا إلى السجن.. وصرت منذ هذه اللحظة حبيبا إلى قلوبهم خصوصا حينما علموا بعلاقتي المقربة من الضابط عايش..

***

في نفس ذلك اليوم الذي سافر فيه زميلي إلى الفيوم وجدت الضابط عايش يزوم في مكتبه ويتحرك جيئة وذهابا في عصبية فسألته:
فيه حاجة ولا ايه؟

لوح بذراعيه وصاح:
"مصطفى" زميلك مرجعش لحد دلوقت وورديته قربت تبدأ.. احنا بنختار واحد بس من كل مكتب يوميا لحد ما نخلص كل المكاتب وبعدين نكرر نفس النظام.. أنا كنت كل مرة بختار مصطفى يطلع الوردية دي خصوصا انها شنجي.. عارف لو كانت برنجي أو كنجي يمكن كنت اتصرفت.. لكن كدة مصطفى هيحطنا في موقف محرج ولازم عسكري من مكتبنا يقف شنجي من نص الليل لحد الساعة 6 الصبح

ثم نهض واتجه نحوي وهو يقول في ضيق:
معلش يا ممدوح.. الظاهر مفيش حل تاني.. عايزك تخلص الوردية دي بدل مصطفى.. أنا عارف ان الشغل تقيل عليك وإنك مش ناقص لكن هعمل ايه..

قفزت واقفا أؤدي التحية العسكرية وقلت في قوة:
أكيد يا فندم.. كفاية إن حضرتك اللي كلفتني بكدة.. تحت أمرك..

سلمت نفسي للقيادة فقامت على الفور بتوزيعي لحراسة مخزن الوقود والمتفجرات.. حملت سلاحي واتجهت لتسلم الوردية من زميلي البرنجي.. ألقيت عليه كلمة السر ثم وقفت مكانه.. لم يكن هناك أحد في المكان على الإطلاق والبرد قارص إلى الحد الذي يجعل ملابسي تتجمد فوق جسدي وتلتصق به.. ظللت أتحرك جيئة وذهابا في المكان.. وبالطبع كان من الجنون إشعال النار بحثا عن التدفئة وأنا أحرس مخزن الوقود!

سيطر الهدوء على المكان إلا من صفير الرياح وقد بدأت أجفاني تتثاقل ويغلبني النعاس ولم أعد قادرا على الحركة.. جلست لحظات حتى اقترب وقت الفجر ثم نهضت أستدير ففوجئت برجل ضخم أمامي يهوي على صدري بكفه بلكمة كالقنبلة.. تراجعت خطوتين ثم اندفعت نحوه أقبض على مؤخرة عنقه وساعده ودفعته بكل قوتي نحو الأسلاك الشائكة المحيطة بالمكان.. صرخ الرجل في رعب وهو يرى جسده يندفع نحو أطراف السلك المدببة ثم تحولت صرخته إلى ألم هائل حينما انغرست في مواضع شتى من جسده وتفجرت الدماء تغرق ثيابه.. فوجئت به يرفع صفارة كبيرة إلى شفتيه ثم ينفخ فيها بكل قوته لتشق هدوء الفجر وتنتزع الجميع من أماكنهم.. وفي نفس اللحظة قفز العسكري المسئول عن جرس الإنذار الضخم الخاص بالطوارئ القصوى يجذبه إلى أسفل..

وفي لحظة واحدة تحول المكان إلى خلية نحل وبدأت أدرك فداحة ما فعلت.. نزع الرجل نفسه من السلك الشائك وانطلق يعدو وهو يصرخ بكل قوته.. اتسعت عيناي بكل ذعر الدنيا وقد أدركت حقيقة هذا الشخص الذي كدت اقتله..

كان مساعد ضابط عظيم !!

(نهاية الجزء الأول)

قـــرار يعني لي الكثير

البارحة - الحادية عشرة ليلا

"محمد لو سمحت الأوردر دة مستعجل .. عندك ملف في مكاننا المعتاد باسم الباشمهندس (............) .. افتحه وعدل المقاس بتاعه خليه 130 في 50 .. ونقيله خلفية على ذوقك .. عايزين نبعته المطبعة النهاردة"

نطقها الباشمهندس مصطفى بسرعة كالمعتاد وهو يضع أمامي ورقة صغيرة تحمل الأوردر الجديد.. كنت قد بدأت أشعر بالإرهاق ولكنني وجدت الأمر بسيطا إلى الحد الذي يجعله لا يستغرق اكثر من نصف الساعة.. التقطت الورقة وبدأت العمل مجيبا:

"أوك يا باشمهندس .. حالا"

كنت المصمم الوحيد في الشركة بعد أن انصرف زميلي أحمد وزميلتي سمر ولم يحضر زميلي الآخر باسم.. في الداخل بالقرب من المطبعة كان عمال الطباعة ينقلون الأوراق من مكان إلى آخر.. لم يتبق من العمال بعد انصراف الجميع سوى اثنان.. وكلاهما اسمهما أحمد.. وبالطبع انصرفت المسئولة عن استقبال العملاء منذ وقت مبكر..

انهمكت في تنفيذ الأوردر لمدة نصف ساعة تقريبا.. لم أكد أنتهي وأحفظ عملي حتى انقطع التيار الكهربي فجأة عن المكان.. حمدت الله على أنني حفظت العمل قبل قطع الكهرباء.. استمر الانقطاع دقائق قليلة ثم عادت الأضواء تغمر المكان.. نظرت في ساعتي فإذا بها قد دقت الحادية عشرة والنصف..

قررت أن أنصرف.. لم يكن هناك أي أوردرز أخرى لتنفيذها، والوقت تأخر وتركيزي انخفض إلى ما يقرب من الصفر.. سألت أحد الأحمدين عن المهندس مصطفى فأخبرني أنه يطبع بعض الكروت بالداخل.. وقفت أمام باب غرفته ثم طرقته في هدوء.. سمعت صوته من الداخل:

ايوا .. مين

أنا يا باشمهندس

فيه حاجة يا محمد؟

خلاص خلصت الأوردر.. تسمحلي أستأذن؟

طب معلش استناني دقايق يا محمد وطالع بعد إذنك

أوك

كنت مرهقا بشكل يفوق كل الأيام منذ التحقت بهذا العمل.. بالطبع لم تمر فترة طويلة على هذا فقد أكملت بالكاد يومي الحادي عشر على عملي هذا، ولكن هذا اليوم بلا شك كان أكثرهم إرهاقا..

ألقيت جسدي على أقرب مقعد وأغمضت عينيّ.. وجدت المهندس مصطفى يخرج إليّ ويقول:
نعم يا محمد؟

كنت بقول لحضرتك هستأذن

طيب اللوحة بتاعة مدرس الإنجليزي.. انت خلصتها خلاص ما ناقصش غير إنها تتبعت للمطبعة.. معلش ابعتها الأول

أومأت برأسي.. كان هذا يعني أنني سأضطر لتشغيل جميع أجهزة الشبكة وإرسال الملف عبرها.. استمر الأمر فترة طويلة أصابني الملل خلالها.. دائما ما يتوقف إرسال الملف بلا سبب عدة مرات.. نهضت في ضجر وقلت لنفسي:
كفاية كدة

راعني أن اشارت عقارب الساعة إلى الواحدة إلا الربع.. تركت المهندس مصطفى يتولى مسئولية هذا العطب الذي يمنع إرسال الملف وانصرفت.. انتظرت طويلا في الموقف الخاص بمكروباصات مدينة 15 مايو.. وفي النهاية وجدت مكانا خاليا في أحدهم وإن لم يكن سيذهب مباشرة إلى حيث مسكني وسأضطر للمسير قليلا بعد ذلك لكنني لم اهتم.. رغم أن المسير في مدينتي شتاء بعد الواحدة ليلا مجرد ضرب من الجنون حيث لا يوجد بشري واحد في الشوارع..

وطوال الطريق راحت الأفكار تتدفق في رأسي لتكون قرارا قويا وحازما..

تذكرت كيف أصررت على البحث عن عمل.. وكيف كان هذا الأمر يمثل لي أولوية كبيرة حتى أنني سألت أحد الزملاء عن العمل كمصمم فأرشدني إلى هذا المكان الذي أعمل فيه الآن.. وتذكرت كيف فهمت قواعد العمل واندمجت فيه بعد مرور أيام قليلة حتى صار جزءا كبيرا منه ملقى على عاتقي.. وتذكرت كيف لم أهتم إطلاقا بالناحية المادية حتى أنني لم اتساءل لحظة عن مرتبي حتى اخبرني به صاحب العمل ذات مرة.. لأن طموحاتي من العمل لم تكن مادية بل كانت إثبات لنفسي أنني يمكن أن أستقل بها وأن أتحرر ماديا وأكتسب خبرات من العمل والاحتكاك في الوقت نفسه، بل والأهم أن أستطيع التوفيق بين العمل ودراستي في كلية الطب!

ثم تذكرت كيف كان والدي معترضا بشدة على هذا الأمر وكيف حاول بكل الطرق إثنائي عنه لكنني كنت مصمما بشكل يفوق كل وصف.. تركني أخوض التجربة بنفسي.. وكنت سعيدا بها حتى بدأت المعالم السلبية تتضح بشكل لم أكن لأفهمه إلا إذا اندمجت مع حياة العمل..

هل كنت مخطئا عندما قررت أن أعمل - كمصمم جرافيك - وأدرس - بكلية الطب - في نفس الوقت؟؟

وفي أعماقي تردد هذا السؤال الذي سألني إياه أحد اقرب أصدقائي:
أيهما تفضل..
أن تبقى أثناء فترة دراستك تحت الرعاية المالية لأسرتك وأن يوجهوك - بالتالي - إلى ما يتوافق مع مصلحتك حتى وإن كانت وجهات نظرهم لا تتفق معك وحتى إنت كنت ترى مصلحتك في أشياء أخرى غير ما يريدون؟ فهم في النهاية لن يضروك إن لم يفيدوك
أم تفضل..
أن ترتبط اثناء دراستك بقواعد العمل والبيزنس الذي لا يرحم ، وأن تعمل مع من لا يرى فيك إلا محركا للإنتاج ولا يريد منك إلا ما يحقق مصلحته حتى وإن كان هذا يتعارض مع مصلحتك؟ حتى وإن كان شخصا محترما

ضربت زجاج المكروباص بيدي على نحو مسموع وملحوظ أثار دهشة من يجلسون بجواري خصوصا عندما ضغطت على شفتيّ باسناني.. صرخت في أعماقي:
ماذا دهاك هذه المرة؟!
أين مقاييس حكمك وتقديرك للأمور؟
لماذا اختلت على هذا النحو العنيف؟

كل هذا لأنك تريد أن تستقل بحياتك ماديا وتبتعد عن جو الدراسة والطلبة والتعليم ونظامه المعقد السخيف الذي لم تكره شيئا سواه؟
أنت في النهاية مرتبط به في كل الأحوال..

ثم ما أدراك أن زهوة المال وشهوة الاستقلال لن تجرفك إلى ما هو أسوأ وتهمل حياتك الحقيقية كطالب تماما كما حدث مع الكثيرين من قبلك.. حتى إن كنت تستنكر ذلك على نفسك الآن.. لا تقل لي أنك تضمن نفسك الأمارة بالسوء!

لم لا تصبر وتترك كل شيء على طبيعته.. ربما وجدت فرصة للعمل في فترة الأجازة الصيفية أفضل كثيرا من هذه..
ولكن ربما لا .. لماذا أترك فرصة كهذه تفلت من بين اصابعي بعد أن أصبحت ملكي.. فلتتحمل شهرا أو شهرين حتى تحجز لنفسك مكانا مميزا في العمل ثم فليكن ما يكون..

وهل تظن أن العمل الخاص يعترف بهذه الأمور؟ لو تغيبت يوما أو يومين سينقلب كل شيء وسيأتي من يحل محلك.. وبالتأكيد ستضطر إلى التغيب على الأقل في فترة الامتحانات.. أنت تقضي ثمانية ساعات كاملة في هذا العمل اللعين!

ولكن من يضمن لي فرصة كهذه في الأجازة الصيفية مثلا؟
وهل يتوقف العمل عند حد؟ العمل لا يتوقف ابدا.. ولكن دراستك لن تعوض.. ولو تعثرت فلن تعوضك كل أموال الدنيا..

(ارمي حمولك على ربنا يابني)..

ترددت هذه الكلمة بصوت أبي في عقلي فجعلتني أبتسم.. نعم.. لم تفكر في هذا السؤال؟.. إذا صدقت الله النية فسيوفقك في دراستك وسيوفقك في عمل مناسب إن شاء الله في وقت فراغك وأجازاتك.. هذا هو صوت المنطق..

ثم ما الذي يضمن لك أن تأخيرك في العمل حتى الثانية صباحا لن يحدث في أيام تكون أحوج ما تكون فيها إلى دقيقة واحدة تستعد فيها للامتحانات؟! اليس هذا واردا؟

شعرت برأسي قد تورمت فنزلت من المكروباص وأسرعت أسير وسط الشوارع الخالية تماما في هذا الوقت المتأخر والبرد القارص يحاول اختراق ثيابي الكثيفة لينفذ إلى عظامي.. وفي رأسي تفجر هذا السؤال كالقنبلة ألف مرة..

أليس هذا واردا أيها العبقري؟!

شعرت بالسخرية في أعماقي وتصاعدت هذه السخرية إلى شفتيّ فارتسمت عليهما ابتسامة مريرة.. أي عقل هذا الذي يستطيع تحمل ضغوط العمل المستمرة وضغوط الامتحانات خصوصا في الراوند القادم حيث يرتبط الحضور بالدرجات ولا مجال للتهاون؟! هل تظن نفسك سوبر مان؟

تذكرت أيضا كيف كنت واثقا وأنا أخبر أمي أنني بداية من الراوند القادم سأنهي يومي الدراسي في السيدة زينب لأتجه إلى عملي في حلوان مباشرة دون أن أتناول غدائي ودون أن أعود إلى المنزل.. وكنت بالفعل أنوي الاستمرار بهذا النظام الذي بغض النظر عما سيؤدي إليه من الانهيار الجسدي الحتمي فهو بالتأكيد لن يمنحني لحظة واحدة تصلح لمذاكرة دروسي..

شعرت بصوت الرياح تعلن لحظة الاستسلام للواقع واتخاذ القرار الحتمي الذي حاولت بكل قوتي تفاديه..

وشعرت بعيني ّ تتألقان وقلت لنفسي بصوت مسموع صبغته بكل حزم وقوة الكون:
كل شيء بوقته .. لا تتعجل .. كل شيء بوقته .. والله وحده أعلم بما سيحدث في مستقبلك .. وقد تنجح وتحقق ما لم تكن تحلم به في مجالات عديدة.. وقد لا تفعل أي شيء.. وقد تكون حياتك أقصر كثيرا من كل ذلك.. دع الأمور لله سبحانه وتعالى بالله عليك ولا تحمل نفسك من الأمر ما لا تطيق..

وفي اليوم التالي الذي هو اليوم ظهرا شعرت بقدر هائل من الارتياح عندما أخبرت زميلي أحمد هاتفيا بأنني قد تركت العمل للتركيز في دراستي.. وكانت ابتسامة أبي وسعادة أمي بانتهاء هذا الوضع فصل الختام.. مؤقتا..

الساعة الأولى بعد منتصف الليل من يوم 22/12/2010

لم أنتِ؟

لم أنتِ؟

لِمَ كل مرة.. في حركتي وسكوني.. في آهاتي وشجوني.. في فرحتي وسروري..
في كل لحظة وكل موقف.. في غربتي وحتى بين أهلي..

لم أنتِ؟

أحببتك حتى عشقت كل شيء تحبينه.. حتى تعلقت بكل ما أثار إعجابك ولو مرة..
أحببتك حتى رأيت الوجود جميلا بعينيكِ وسمعت صوت الحب وهمس الحنان بأذنيكِ..

لم أنتِ؟

كنت قبلكِ مشتتا يتشابه عندي القريب والبعيد.. العمل والفراغ..
لا هدف ولا طموح ولا وجود ولا رضا عن نفسي..

كيف غاليتي ما إن سكنتِ في قلبي حتى صرت شخصا لا ينام ولا يعرف كللا أو كسلا؟

لم أنتِ؟

هل لأنكِ تملكين بكلمة أن تبثي الحماس في العالم بأسره؟
أم لأنكِ تحبين بصدق وتعشقين بلا حدود؟

لم أنتِ؟

هل لأنكِ مختلفة عن كل من رأيت أم لأنني أراكِ نجمة من نجوم السماء؟
أم لأني أحبك بصدق وأعشق حتى النخاع؟

لم أنتِ؟

ولِمَ أسأل هذا السؤال؟! المهم أنكِ هنا .. من أجلي
المهم أنني لا أرى سواكِ.. ولا أعرف سوى حبكِ غاليتي

فلتقولها إذن.. رددها بكل ما تملك من صدق وإخلاص وعزيمة وإصرار..
ضعها أمامك في كل لحظة حتى تظل دائما رجلا يستحق أن يقولها..

@};- أحبـــــك
@};-

الختـــام .. ثـــورة

تحجرت الدموع في عينيّ كهل وقور وقف شامخا قويا يستقبل الجموع التي جاءت تلبية لواجب العزاء في ولده الحبيب، في حين وقف إلى جواره شابان يبدو عليهما الشحوب والحزن الشديد يستقبلان الناس معه، وارتفعت آيات من الذكر الحكيم تدوي لتشق ذلك السكون الذي خيم على المكان مع عدد لا نهائي من أقداح القهوة والشاي وأكواب المياه..

ووسط هذا الجو الكئيب تعلقت العيون بذلك الرجل الأشيب قوي الملامح والجسد، الذي يرتدي حلة سوداء أنيقة ويشق طريقه نحو الكهل مباشرة ويربت عليه قائلا في تعاطف:
البقاء لله وحده يا حاج محفوظ.

لم يكن أحد يعلم أن هذا الرجل الأشيب من أخطر رجال الدولة كلها، ولا أنه يحمل رتبة وزير ويعمل تحت قيادة السيد رئيس الجمهورية مباشرة، لأن طبيعة عمله تقتضي الخبرة والسرية وعلى قدر هائل من الأهمية، فهو مدير المخابرات العامة المصرية شخصيا..
أما هذا الكهل فهو والد جلال..

وفي صلابة شد الكهل على يديّ الرجل وأجاب:
الدوام لله

ابتسم الرجل وتابع:
لقد مات ابنك بطلا قوميا نحتسبه عند الله من الشهداء الأبرار، ولقد انتقل إلى مثواه الأخير ملفوفا بعلم مصر وشيع جنازته ما يزيد على العشرين ألفا.

قال الكهل بنفس الصلابة:
جزاكم الله خيرا.

ثم أخرج من جيبه ورقة مطوية أعطاها للأشيب متابعا:
هذه صورة.. وأنا أحتفظ بالأصل.. أرجو أن تقرأها.

هز الرجل رأسه إيجابا وهو يلتقط الورقة مجيبا:
سأفعل بإذن الله.

ثم انصرف بخطوات سريعة فتقدم الشابان نحو الكهل وقال أحدهما بصوت مختنق:
لقد كان جلال حبيبا إلى قلوبنا جميعا يا عمي محفوظ.

رفع الكهل عينيه إليه وأجاب:
أعلم هذا يا إبراهيم.

قال الشاب الآخر - الذي لم يكن سوى فهمي - في خفوت:
نسأل الله أن يلهمك الصبر.

وعاد الصمت يخيم على كل شيء حتى ختم القارئ تلاوته:
صــدق الله العظيـــم.

***

وقف مدير المخابرات ممشوق القوام أمام رجاله وقد وضع الورقة التي أخذها من الحاج محفوظ على البروجكتور لتظهر أمام الجميع بوضوح، وقال:
هذه هي الكلمات التي كتبها الشهيد جلال قبل أن يبدأ مهمته.. لم يكن يعلم أنه سيموت شهيدا ساجدا لله تعالى.. هذه الكلمات بمثابة مصباح ينير الطريق لكل من يهب حياته لخدمة دينه ووطنه.

وفي صوت قوي قرأ المدير:
بســــم الله الرحمـــــن الرحيــــــم
اسمي جلال محفوظ.. لم أهتم يوما بالكتابة عن نفسي ولم أكن أظن أني سأحتاج إلى هذا، فأنا شاب تقليدي يعيش نفس الظروف التي يعيشها الملايين من أمثاله.. لم يكن لي هدف أو طموح أو قدوة في الحياة لذا لم أهتم لا بالمذاكرة ولا بالبحث عن عمل ولا بتنمية مواهبي، ولكنني انشغلت عن كل هذا باللعب واللهو والجلوس على القهاوي بلا حساب.. ارتكبت الكثير من المعاصي والآثام.. كذبت، نافقت، رافقت عدة فتيات فكلما مللت من واحدة منهن أذهب إلى غيرها.. حتى في المرة الوحيدة التي تعلمت فيها شيئا ما عكفت على تعلم علم الاختراق والشبكات لأغراض سيئة أو حتى غير أخلاقية! .. نصحني أبي كثيرا وطويلا بالتوبة لكنني لم أستجب أبدا.. لذا فقد كنت نسخة من ملايين النسخ التي تعج بها مصر..

أقول - والحمد لله - أنني كنت كذلك، فاليوم عرفت طريقي وحددت هدفي وتوقفت عن كل ما يغضب الله، والتزمت بصلاتي وعبادتي، فأنا اليوم بكل تأكيد شخص مختلف تماما..
لم أكن أعلم أن الوقت الذي قضيته في احتراف علم الاختراق سيكون سببا في نقلي من ظلام التشتت إلى نور اليقين.. إنني أحمد الله في كل لحظة أن أرسل إليّ في الوقت المناسب من يوجه موهبتي إلى الاتجاه السليم ويعينني على نصرة ديني ووطني، فتركت تلقائيا كل ما هو سيء وتحولت إلى إنسان آخر..

غدا بإذن الله أعظم ايام حياتي.. سأواجه أعداء الله وأعداء مصر وسأستغل موهبتي في القضاء عليهم حتى لو كان هذا آخر ما أفعله في حياتي.. ولعل الله يغفر لي بذلك ما ارتكبته من آثام وأخطاء في الماضى.

ثم طوى المدير الورقة وقال في قوة وفخر:
ها هو ذا بطل جديد يسقط من أجل مصر.

طرق أحد الرجال باب المكتب ثم دفعه وأسرع يقدم تقريرا جديدا إلى المدير دون أن ينطق بحرف واحد، فأسرع المدير بدوره يلتهم التقرير بعينيه ثم هتف في دهشة:
سبحانك يا رب! هل تصدقون هذا؟!

أصغى إليه الجميع في ترقب وهو يتابع في انفعال:
لقد تم نشر خبر استشهاد جلال عبر الفيس بوك باعتباره بطلا قوميا ومعه شرح تفصيلي للدور الخفي الذي يقوم به الفيس بوك في تدمير الشباب العربي ومقتل هذا الشاب البطل على يد من يديرون هذا المخطط خوفا من انكشاف الأمر، وقد أثار الخبر موجات هائلة من الغضب العربي وقامت أكبر حركة مقاطعة لهذا الموقع العالمي في التاريخ كبدت أمريكا وأوروبا وغيرهما اضرارا فادحة فأسرعوا يغلقون كل المجموعات والصفحات المشتبه في كونها ضد الشباب العربي، على نحو جعل كبرى الصحف والمواقع العالمية تنقل ما يحدث إلى كل مكان، تحت عنوان مثير للغاية.

واستطرد في انفعال هائل هذه المرة:
ثورة على الفيس بوك.

وضرب سطح المكتب بقبضته في قوة وهو يتابع:
انظروا كيف أثر شاب واحد كل هذا التأثير على الملايين في كل مكان في العالم حتى بعد وفاته! من يتصور هذا؟!

وفي أعماق الجميع نما ذلك الشعور الجميل بالاعتزاز والفخر والاطمئنان..
كل الاطمئنان..
والخشوع..

زهرتــــان ، إهداء إلى كارمن - فراشة زرقا

زهرتان .. متفتحتان .. صديقتان .. في حديقة الدنيا الغنَّاء ..

أخبرتني إحداهما عندما جذبني بهاؤها وتألقها:
نحن زهرتان .. هي أنا وأنا هي ..

قلت في دهشة:
وهل من الممكن أن تحوي هذه الدنيا زهرة أخرى بنفس البهاء والتألق والرائحة المنعشة والألوان المتناسقة؟!

بلغت دهشتي ذروتها عندما كررت الزهرة:
هي أنا وأنا هي.. نحن متماثلتان ولا شيء مثلنا.

قلت:
إذن أيتها الزهرة .. أين أجد الزهرة الأخرى حتى أتأكد من كلامك؟

كررت بلا ملل:
هي انا وأنا هي.

أدركت أنها لن تخبرني فتركتها وانصرفت أسير في أرجاء الحديقة.. فواكه وورود وأشجار ونخيل.. عصافير تحلق وتطير.. كل شيء جميل..

قلت لنفسي بإعجاب شديد:
لا يمكن أن يكون لهذه الأشياء مثيل!

ولكن أنفي التقط نفس الرائحة المنعشة التي تنشرها الزهرة الأولى، فأسرعت أعدو مهتديا بالرائحة لعلي أصل إلى الزهرة الأخرى.. مررت بشلال من المياه الصافية.. عيون تتفجر جارية.. وإذا هي فجأة تقف هناك متحدية.. انقبض قلبي واندفعت نحوها صائحا:
لا اصدق نفسي! هل أنتِ حقا الزهرة الثانية؟!

قالت:
أنظر حولك تفهم كل شيء.. هي أنا وأنا هي.

أدركت فجأة ما تعنيه ونظرت حولي فإذا بي قد قطعت دائرة كبيرة في الحديقة ثم عدت من حيث أتيت.. لم تكن هناك أبدا زهرة ثانية!

نظرت إلى الزهرة في عتاب ثم سألتها:
لماذا تركتيني أبحث عن الزهرة الأخرى وأنتِ تعلمين أن لا وجود لها؟!

ابتسمت الزهرة ثم مالت بأوراقها الملونة نحوي وأجابت في حكمة وهدوء:
هي أنا وأنا هي.. فكر في كلماتي تعلم أننا لا ننفصل..
نحن روح واحدة في جسدين..
أنفاس تتردد من صدرين..
عقل يفكر في رأسين..
كلام يتردد على لسانين..

أنا هي .. وهي أنا !

*****

إهـــداء إلى:

كارمن ، فراشة زرقا

ثورة على الفيس بوك.. من هنا تأتي الثورة

(رجالنا مستعدون للهجوم فور تلقيهم الإشارة)..

قالها مدير المكتب الخاص بمدير المخابرات العامة المصرية في حزم، فاعتدل هذا الأخير وألقى نظرة على إحدى الساعات التي تزين جدار مكتبه ثم قال:
فلندعو الله أن تتم هذه الإشارة في الوقت المناسب يا رجل.

أومأ مدير المكتب برأسه وعلق في هدوء:
فلنأمل ذلك يا سيدي.. لقد اتخذ المقدم مدحت موقعه في ذلك المكان السري الذي حددته المنظمة، وفور أن يتم الاتصال بينه وبين المركز الرئيسي لها يبدأ عمل جلال، وسيكون عليه تعقب هذا المركز بكل مهاراته وقدراته من خلال حساب الفيس بوك الذي منحته إياه المنظمة نفسها، وفي حالات الطوارئ القصوى يمكنه بث الاشارة التحذيرية لنا، فنتدخل فورا وننقذهما في الوقت المناسب إن شاء الله.

هز مدير المخابرات رأسه ونهض من مقعده وهو يتنهد في عمق ثم قال:
هذه المهمة تعني الكثير في هذه الفترة الحرجة التي تمر بها مصر.. لا يمكن أن نسمح لجهة إرهابية حقيرة كهذه بالحصول على أسرارنا بهذه البساطة دون أن نتصدى لها ونعلمها درسا يمنعها من دس أنفها القذر في شئوننا مرة أخرى.

وارتسم على وجهه كل اهتمام الكون وهو يتساءل:
هل اتخذت كل الاجراءات اللازمة لتأمين جلال ومدحت؟

أجابه بسرعة:
بالتأكيد.. فور أن يتم تحديد مكان المنظمة ستتدخل قوات الجيش والشرطة والمخابرات في آن واحد فالأمر في منتهى الخطورة على المستوى السياسي والأمن الداخلي أيضا.. وسنبذل المستحيل لإخراجهما أحياء بإذن الله.

غمغم المدير:
على بركة الله.

***

جلس المقدم مدحت في هيئة جورج على كمبيوتر نقال حديث في مكان ما يتبع المنظمة الارهابية وقام بتنشيط حسابه في موقع ياهو ثم انتقل بسرعة إلى خطوات استقبال مؤتمر الفيديو، وقبل أن يضغط زر الموافقة النهائي وضع ملف تجسس صغير قام بتصميمه بنفسه داخل الملفات الرئيسية للويندوز، ثم وافق على عقد مؤتمر الفيديو الذي سيتلقى عن طريقه التعليمات الجديدة من تلك المنظمة..

وظهر على الشاشة ظل كبير لرجل بلا ملامح ضخم الجثة عريض المنكبين وانبعث صوت آلي يقول بإنجليزية جافة ودون مقدمات:
ينبغي أن تسجل هذه اللحظة في تاريخك فأنت تجلس وتتلقي تعليماتك مني شخصيا، تقديرا إمكاناتك.

كتم مدحت سخريته في أعماقه بصعوبة ثم رسم على وجهه أكبر قدر من الانبهار والابتهال وهو يقول متلعثما:
لا.. لا يمكنني تصديق هذا.. هل أتحدث إلى الزعيم شخصيا؟!

وفي اللحظة نفسها كان جلال يعمل عبر كمبيوتر نقال آخر في مكان قريب يتبع المنظمة أيضا ويحاول اختراق موقع المحادثة عن طريق ملف التجسس الذي زرعه مدحت..
ولكن الأمر كان صعبا وشديد الخطورة بالفعل..
كل لحظة تمر كانت تهدد بفشل العملية كلها، حيث يتابع خبراء المنظمة هذا اللقاء المؤمن ويمنعون كل محاولات الاختراق..
كان سباقا رهيبا ومنافسة مشتعلة بين عقول أجنبية جبارة وعقل مصري واحد تعلم كل شيء ذاتيا..
وكان لا بد أن ينكشف كل شيء في لحظة ما مهما بلغت مهارة جلال..

وفي لحظة واحدة وبمهارة شديدة، أرسل جلال رسالتين إلى المخابرات المصرية تحذر إحداهما من أن المنظمة قد كشفت الأمر وتحمل الأخرى مكان مقر المنظمة تفصيليا..
وكان هذا يعني أن المهمة قد نجحت وفشلت في نفس الوقت..

وهناك في مؤتمر الفيديو حيث يجلس مدحت أعلن الكمبيوتر حالة الاستنفار العام وأطلق جهاز الإنذار وأوقف كل النشاطات، فصرخ الرجل الغارق في الظلام:
خيانة.. إنك..

وبرد فعل سريع قفز مدحت جانبا وهو يتدحرج على الأرض، وتحركت قوات الجيش تلقي بفرق الكوماندوز حول مقر المنظمة، في حين تحرك رجال المخابرات المصرية بسرعة البرق لإنقاذ مدحت وجلال..
واشتعل الموقف كله، وأصبحت كل لحظة لها ثمنها..
كل لحظة..

***

لم يكن أمام جلال أي أمل..
هو وحده، لا يستطيع القتال، يجلس داخل حجرة مغلقة بلا نوافذ، وقد تم غلق الكمبيوتر تلقائيا فور أن انكشف أمره فأصبح سجينا وسمع صوت رجال المنظمة يندفعون إليه من كل جانب..
ولكن العجيب أنه لم يشعر إلا بسعادة غامرة..
كل ما يشغله أنه نجح..
غريبة هي تلك الطاقة التي تندفع في عروق كل مصري وعربي ومسلم حينما يتعلق الأمر بوطنه!

وبكل قوته قفز خلال يحتمي خلف بعض الأثاث وهو يصرخ:
اقتلوني إن شئتم.. لم يعد يهمني أي شيء.

انهالت الرصاصات كالمطر تحطم كل شيء في طريقها إليه، وسمع اصوات تبادل إطلاق نار عنيف بل وانفجارات عنيفة على نطاق محدود ثم صرخات متواصلة تحمل قدرا هائلا من الألم والغضب، فانتابته رغبة قوية في أن يشكر الله على نعمة الشهادة، وتجاهل فجأة كل ما حوله وسجد على الأرض في خشوع، وهو يقول في اطمئنان عجيب:
الحمد لله

وهناك، كان مدحت يحاول الاحتماء باي شيء وهو يلعن هذه المهمة التي اضطرته للحضور وحيدا دون سلاح، وتمدد أرضا وزحف صارخا:
كم أفتقد مسدسي العزيز!

سمع دوي الرصاصات يحيط به من كل جانب ثم تحطمت بعض النوافذ وسمع صوت أزيز يشق الهواء فوق رأسه ثم لمح حبلا قويا يتدلى أمامه وسمع صوتا يصرخ:
تشبث وتسلق بسرعة.

وفي خفة، قفز مدحت يتعلق بالحبل وشعر برصاصة تخترق ساقه لكنه تجاهلها وقفز عبر النافذة إلى الخارج ليستقبله رجلان من المخابرات المصرية أسرعا يبتعدان عن المكان..

وعندما هدأ كل شيء كانت هناك علامات استفهام تملأ عقول الجميع..
كل العقول..

ثورة على الفيس بوك.. واشتعلت الثورة

اعتبارا من هذا الفصل، لن يقص جلال بنفسه الأحداث التي يمر بها بل سيتم وصف الأحداث من وجهة نظر خارجية
حفاظا على تماسك القصة وحرصا على هدفها النهائي
****


أعلنت عقارب الساعة تمام الثالثة بعد منتصف الليل في مدينة العاشر من رمضان، وأطبق الهدوء والسكينة على كل شيء في تلك الليلة شديدة البرودة من شهر ديسمبر، حينما تحركت سيارة كبيرة خارج الشوارع الرئيسية وأضاءت مصباحيها الأماميين ثم أطفأتهما عدة مرات بتتابع معين، فتحركت سيارة أخرى نحوها حتى توقفت بجوارها تماما قبل أن ينزل منها شاب طويل انتقل بسرعة إلى السيارة الأخرى وجلس على مقعدها الخلفي، فقال له السائق بإنجليزية خشنة:
لا تتحرك .. ولا تصدر أي صوت

تسمر الشاب على مقعده في حين صعد عن يمينه وعن يساره رجلان ضخما الجثة مفتولي العضلات عصبا عينيه ليمنعاه من الرؤية..
ولنصف ساعة، تحركت السيارة عائدة إلى الشارع الرئيسي قبل ان تتوقف أمام فيلا كبيرة ويخرج الرجلان وهما يدفعان أمامها الشاب معصوب العينين حتى وصلا إلى الردهة فقاما بتفتيشه في قسوة ثم تركاه وانصرفا بلا مبالاه تامة..

مرت دقيقة ثم ظهر رجل آخر من داخل الفيلا تقدم نحو الشاب ثم نزع العصابة عن عينيه وجلس فوق مقعد جانبي في تحفز..
كان التوتر يحيط بالموقف كله فلم ينطق الشاب بحرف واحد حتى هبط إليه من الطابق العلوي رجل أشقر الشعر أزرق العينين شديد الأناقة، جلس أمام الشاب وهو يقول بإنجليزية صارمة:
مرحبا يا جلال في فيلتي المتواضعة.. أرجو أن تروق لك.

هز جلال كتفيه وقال بشيء من الحذر:
لم أفهم لِمَ كل هذه الاحتياطات يا سيدي.. لو أنك بالفعل مستر "صمويل" الذي تحدث إليّ عبر الإنترنت وأقنعني بالانضمام إليكم.. لقد أتيت إليكم بملء إرادتي مقابل ..

قاطعه الرجل في صرامة:
لا تشغل عقلك العبقري بهذا أيها الشاب.. نحن نفكر وأنت تنفذ.. تنفذ فقط.

هز جلال رأسه مجيبا في توتر:
فليكن

ساد الصمت لحظات أشغل خلالها الرجل سيجارا نفاذ الرائحة، نفث دخانه في قوة قبل أن يتابع:
صديقك جورج انضم إلينا بالفعل وهو الآن في مكان آخر يعمل تحت سمعنا وبصرنا كما ستفعل أنت هنا تماما.. ستأتي في أوقات محددة ثم تعود لتمارس حياتك بشكل طبيعي تماما.. لا أريد أن يشعر أحد بما تفعله هنا ولا أقبل أي اخطاء.. هل تفهم؟

عاد جلال يهز رأسه مجيبا في قوة:
بالتأكيد يا سيدي.

ولكن قلبه كان يدق بمنتهى العنف ، فقد حانت لحظة الخطر..

***

جلس جلال أمام الكمبيوتر بمنزله في وقت متأخر من الليل ليرسل الإشارة المتفق عليها مع المنظمة عبر حساب معين على الفيس بوك ثم أخذ يتابع تلك الإشارات الغامضة التي يتبادلها أعضاء المجموعة الإرهابية على جدار الجروب، ويتابع بعض العرب الذين تذمروا من كثرة الكلمات الغير مفهومة.. ولكنه كان يلتزم الصمت تماما..

وفجأة، وصلته رسالة من الحساب الرئيسي للتنظيم الإرهابي تحمل عنوان (هام جدا)، ففتحها بسرعة وقرأها في لهفة ثم اتسعت عيناه عن آخرهما في ذعر حقيقي وشهق هاتفا:
- يا إلهي! ماذا أفعل الآن؟!

كانت المخابرات المصرية قد حددت معه موعدا معينا للقائه بالمقدم "مدحت" الذي ينتحل شخصية جورج بأسلوب شديد التعقيد، والاتصال قبل ذلك الموعد يعد ضربا من الجنون، لذا فقد غرق في التفكير لحظات ثم تألقت عيناه وأسرعت أصابعه تعمل على لوحة المفاتيح بمنتهى المهارة والسرعة..

***

(لقد تلقينا رسالة شفرية عاجلة من جلال عبر المجموعة الشفرية المؤقتة)..

هتف العقيد "أيمن" بهذه العبارة وهو يندفع إلى مكتب المدير المسئول عن متابعة العملية داخل مبنى المخابرات العامة المصرية بكوبري القبة، فقال هذا الأخير في قلق:
كان عليه ألا يستخدم هذا الأسلوب إلا كحل أخير في حالات الضرورة القصوى.

وضع الرجل أمامه ورقة كبيرة وهو يقول في توتر شديد:
أعتقد أن ما يحمله يستحق بجدارة كلمة الضرورة القصوى.

وكان يعني ما يقول..

***

(مخطط غربي إرهابي قذر)..

قالها مدير المخابرات العامة المصرية إلى رجاله بلهجة تقريرية حازمة وهو يدير عينيه بين وجوههم ويتحرك في المكان جيئة وذهابا كذئب جريح، ثم تابع:
الفيس بوك هذا لم يعد مجرد موقع إلكتروني.. لقد صار مخططا شيطانيا لكشف عاداتنا وتقاليدنا وهويتنا وبث كل الأفكار السامة الهدامة بين أبنائنا.. كل هذا كنا نعلمه ونحاول السيطرة عليه، ولكن الأمر لم يتوقف على هذا.

ثم توقف مكانه وهو يتابع في غضب مكبوت:
هذه الرسالة التي تلقاها جلال تعني أن هذا الكيان أخطر بكثير مما نتصور، فهو لا يمارس الإرهاب بصورته التقليدية ولكنه يسخر العقول وهذا أكثر خطورة من التفجير والقتل والتدمير.

علق أحد الرجال:
الأمر الذي تلقاه منهم المقدم مدحت يشبه كثيرا ما تلقاه جلال فهم يطلبون منه بما يتمتع به من لباقة ووسامة وإجادة تامة للإنجليزية أن يندس وسط الشباب العربي ويجذبهم نحو التقاليد الغربية القذرة ويقتل أخلاقهم ويطعن في تقاليدنا وديننا، ثم ينقل للمنظمة ردود أفعالهم حرفيا حتى يقوموا بتكوين ملف كامل عبارة عن خطة طويلة المدى لمحونا من على وجه الأرض.

أكمل رجل آخر:
عنوان الملف نفسه مستفز بشدة .. (الطريق إلى سيادة العرب .. من الفرات إلى النيل).

وقال رجل ثالث:
هؤلاء الأوغاد تنبهوا أن تحقيق هدفهم القذر لن يحدث أبدا بالعنف فلجئوا إلى تدمير مجتمعنا من الداخل.. لذلك طلبوا من جلال أن يستغل موهبته الفائقة في الاختراق والتتبع ليخترق حسابات شخصيات عربية مرموقة، ولو تم هذا الأمر بشكل مركز فستكون كل كلمة نتبادلها عبر هذا الموقع اللعين سلاحا يطعنون به أبناءنا.

استمع المدير إليهم جميعا، ثم قال بكل صرامة وحزم الدنيا:
لن نسمح لمهزلة كهذه أن تحدث.. عندما تحين ساعة الصفر ستتغير كل الأمور بإذن الله.

ولم يكن يعلم أنه على حق تماما، فالأمور بالفعل ستتغير..
بل ستنقلب رأسا على عقب..
وبمنتهى العنف..