مملكة الإبداع

إنها مملكة أهديها إلى أعز الناس، وأحب الناس، وأغلى الناس، فهي من أرشدتني إلى إنشائها وإليها أهدي كل الكلمات..

خبطتين في الراس !!

خرجت من المنزل في وقت مبكر من صباح اليوم وأنا أشعر بالكثير من النشاط والحيوية، ووقفت أنتظر ميكروباص ينقلني إلى حلوان في طريقي إلى الكلية..

طال انتظاري حتى اقترب من نصف الساعة وفي النهاية تمكنت من الوصول إلى حلوان ثم توجهت إلى محطة المترو وأنا أستعيد ذكرى الحوار الذي دار بيني وبين أبي قبل أن أغادر المنزل مباشرة:

- جاهز يا محمد؟

- الحمد لله

- مش هتاخد حاجة معاك تراجع فيها؟

- مش هينفع عشان مش عايز أركنها في أي حتة قبل ما أدخل.. مهو مينفعش أدخل بيها الامتحان

- خد بالك من نفسك

- حاضر

كان اليوم هو امتحان عملي وشفوي البارا.. وطبعا في نفس اليوم لأنه امتحان الدور الثاني وليس الأول..

مر الوقت سريعا ووصلت مبكرا إلى الكلية.. جلست مع زميل أراه لأول مرة وتحدثنا قليلا قبل أن تبدأ اللجان.. كان ينتظر امتحان الفارما وكنت أنا أنتظر امتحان البارا.. وفور ان دقت الساعة الثامنة إلا عشر دقائق افترقنا وتوجهت إلى قاعة الانتظار حيث أنتظر مع زملائي بداية الامتحان في الثامنة..

وفور أن خطوت داخل القاعة شعرت بدوار شديد يكتنفني من كل جانب فتوجهت إلى الصف الأول وجلست حتى أستعيد توازني..
وكنت مذهولا هذه المرة..

لم يكن سبب ذهولي هو الدوار ولكن ذلك الألم الرهيب الذي أشعر به في أمعائي.. نفس الألم الذي شعرت به في امتحان عملي البارا الدور الأول !!

كنت أنتظر في نفس هذه القاعة عندما شعرت بنفس الألم يجتاحني وجعلني الدوار غير قادر على التركيز.. وعندما تحاملت على نفسي وتوجهت إلى الامتحان كنت لا أرى شيئا أمامي تقريبا.. وكلما انحنيت لأنظر خلال الميكروسكوب ازداد الدوار والألم ألف مرة..

أما هذه المرة، فقد كان الألم الذي يسيطر على أحشائي لا يُطاق بحق! كان أشد آلاف المرات من كل أنواع الألم..

كلما نهضت ازداد الدوار وكلما جلست ازداد ألم أمعائي وإذا حاولت أن أسير داخل القاعة هاجمني الدوار والألم معا !

فكرت بجنون .. كلا هذا ليس واقعا بكل تأكيد.. مستحيل أن يتكرر نفس الموقف في نفس الامتحان مرتين !!

ركلت الحائط بقدمي عدة مرات حتى انتبه زملائي إلى ما أفعله لكن أحدهم لم يجرؤ على سؤالي.. كان وجهي الشاحب خير دليل على حالي..

استعنت بالله ودخلت إلى الامتحان.. تسلمت ورقة الاجابة وكتبت اسمي ورقم جلوسي ورقم مجموعتي.. وبمجرد أن حان دوري تضاعف الألم بشكل جنوني.. تجاهلت الأمر واندفعت نحو أول ميكروسكوب وبمجرد أن انحنيت هاجمني الدوار.. تجاهلته وحاولت أن أدقق النظر.. ثم كتبت الاجابة.. وانطقلت من العينة إلى العينة التي تليها وأنا بالكاد أحاول الحفاظ على وعيي..

لاحظت إحدى المراقبات أنني غير طبيعي إطلاقا واقتربت مني حتى تسألني عما أصابني لكن الوقت كان ضيقا بشدة.. انتهى الامتحان وسلمت الورقة وحاولت الحفاظ على اتزاني وأنا أغادر المكان..

كان امتحان الشفوي هو التالي مباشرة في الطابق العلوي.. صعدت درجات السلالم في بطء وأعتقد أن أحد أصدقائي سألني عن الامتحان لكنني لم أشعر به ولم أسمعه إلا بعد أن تجاوزته بعشرة أمتار..

وبمجرد أن وقفت أمام لجنة الشفوي شعرت بأن نوبة الألم قد عادت فتركت المكان كله وصعدت إلى الطابق الرابع حيث لا أحد سواي وجلست أرضا ثم دفنت رأسي بين كفيّ.. ناجيت ربي دون أن أتكلم.. لم أكن قادرا على إخراج كلمة واحدة من حلقي.. فكرت.. هل أظل هكذا إلى الأبد؟؟ لو لم أستعد توازني فستكون كارثة.. يجب أن أنتبه في لجنة الشفوي هذه المرة.. يجب أن أتغلب على كل شيء..

ساعدني يا إلـــــهي !!

ظللت صامتا ساكنا لدقائق.. وبمجرد أن تركت عقلي يسبح في مناجاة ربي ويطلب منه الاستعانة والنجدة، وجدت الألم يخفت فجأة حتى تلاشى فنهضت في بطء ووجدت أن الدوار قد قل كثيرا.. حمدت ربي بصوت مسموع هذه المرة وهبطت إلى الطابق الثاني حيث الامتحان الشفوي..

دخلت إلى الدكتورة الأولى.. أعطيتها الكارنيه ولاحظت نظرتها الفاحصة إلى وجهي الشاحب.. لم أعلق بل اكتفيت بكتابة اسمي.. سألتني سؤالا مباشرا فجاوبتها ببساطة.. بدأت تسأل أسئلة عديدة حول نفس الموضوع فأجبتها.. وعندما وجدت ذلك بدأت في توجيه سؤال أكثر صعوبة.. لم أكن قد استعدت كامل صفاء ذهني بعد فأخبرتها أنني لا أعرف..

سألتني بعدها سؤال تجميع لمجموعة من موضوعات الترم الأول فأجبتها وشرحت لها ما أفهمه فقالت:

- excellent .. إيه اللي جابك هنا يا دكتور؟؟

- امتحان النظري يا دكتورة.. امتحان النظري اللي جابني هنا

- بس انت شكلك مذاكر كويس

- منا كنت مذاكر كويس في النظري.. لكن حاجات كتير معرفتش أحلها خصوصا الـ cases .. هي البارا كدا بالنسبة لي يا دكتورة زي البيو بالظبط.

ابتسمت وأشارت إلى الدكتورة الثانية.. كانت أكثر طيبة منها.. تسأل سؤالا مباشرا إجابته كلمة أو كلمتين ثم تستطرد في الشرح.. كنت أشعر أنني في محاضرة بدلا من أن أكون في امتحان.. وفي النهاية تسلمت الكارنيه وخرجت..

وبمجرد أن خلوت إلى نفسي عدت أسأل السؤال نفسه بجنون:
نفس الأمر يتكرر مرتين !
وفي نفس الامتحان !!

حسنا.. هذا قدري .. وهو ابتلاء.. أعلم ذلك جيدا..

ولكن هذا الابتلاء قد يكون بذنوبي .. وقد يكون لأن الله يحبني..

أشعر أنني أستبعد الاحتمال الثاني... فمن أنا حتى أحظى بحب أعظم العظماء؟؟

إذن هو الأول.. نعم هو كذلك.. لذا أقول الحمد لله على كل حال.. فلو كان هذا الابتلاء تعجيلا لعقوبتي عن ذنوبي في الدنيا فالحمد لله أنه في الدنيا وليس في الآخرة.. وإن لم يكن كذلك فلن أقول أيضا سوى.. الحمد لله

بس فعلا كانوا خبطتين في الراس .. ووجعوا !!

أريده كحمزة !!

البارحة.. بعد صلاة العصر مباشرة.. جلست أتصفح الانترنت كعادتي لفترة حتى انشغلت واستغرقت تماما فيما أفعل حتى لاحظت صديقي الأمريكي (جوني) أونلاين على الياهو ولم أكن أراه متاحا منذ فترة طويلة، فتحدثت معه:

- مرحبا (جوني) .. لم أرك منذ فترة

- مرحبا فخري .. نعم معك حق

- أتمنى أن تكون بخير

- وأنت أيضا يا صديقي

- ماذا تفعل الآن؟

- أقرأ كتابا.. كتاب ممتع للغاية

- هذا رائع .. حسنا يمكنني أن أذهب حتى تنتهي منه

- كلا.. لم أتحدث إليك منذ فترة.. كيف حالك يا صديقي؟

- بخير حال.. وأظن أن لدي هدية لك هذه المرة أكثر متعة من الكتاب

- هدية؟!

- نعم.. فيلم ممتع جدا باللغة الانجليزية.. أرشحه لك

- عن ماذا يتحدث؟

- إنه فيلم تاريخي .. يحكي قصة الإسلام منذ ظهوره

- الإسلام؟؟

- نعم

- هل .. هل يمكننا أن نؤجل هذا الأمر؟ لا أظن أنه ..

- (جوني) .. هل تظن أنني أريد بك الشر؟

- كلا

- لِمَ لا تجرب إذن .. اعتبره إضافة إلى معلوماتك .. يجب أن تعلم ما يدور حولك .. سيكون شيئا ممتعا لو فهمت الاسلام كما هو دون تحريف من قوم لا يفهمونه.. هذا الفيلم يعرض لك كل المعلومات اللازمة عنه وبمنتهى الأمانة

- أرى ذلك

- هيا يا (جوني) لا تتردد.. أنا أعلم أن سرعة الانترنت عندك لا تقل عن 2 ميجا .. لن يستغرق تنزيل الفيلم طويلا.. بالتوفيق

- حسنا يا صديقي .. سأتحدث إليك ليلا .. اتفقنا؟

- اتفقنا

،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،،

كنت جالسا ليلا أتصفح موقع (على بابا) التجاري الشهير حينما فوجئت بـ (جوني) يتحدث إليّ قائلا:

- محمد ..

ارتفع حاجباي حتى قمة رأسي فهو لم يخاطبني باسمي من قبل مطلقا بل كان دوما يختار اسم (فخري) فأجبته بسرعة:

- مرحبا يا صديقي .. كيف حالك؟

- بخير حال .. لقد شاهدت الفيلم

لم أستطع منع دقات قلبي من الخفقان في شدة وأنا أسأله:

- وماذا ترى يا صديقي؟

- لا أعلم .. إنه رائع .. ولكن..

- ولكن ماذا يا عزيزي؟

- إنهم أشخاص مكافحون .. لهم رسالة ويناضلون من أجلها.. ولقد واجهوا في سبيلها الكثير من المتاعب

ظللت صامتا لكي يفرغ كل ما بجعبته وهو يتابع:

- أشعر الآن أنني أفضل اسم (محمد) على اسمك (فخري)

- كلاهما اسمي يا صديقي فأنا (محمد فخري)

- هل تعلم .. لكم أتمنى أن يكون (ماريو) مثلهم .. أريده كحمزة!!

التزمت الصمت لكي أمنحه الفرصة للتفكير.. كنت أعلم أن (ماريو) هو ابنه الذي يتمنى أن ينجبه من صديقته (الجيرل فريند) التي حدثني عنها يوما فقلت في هدوء:

- (جوني) .. (حمزة) لم يكن ابنا لعلاقة محرمة بل كان سيد الشهداء .. لو كنت تريد ابنك كـ (حمزة) .. فاحرص على أن تحسن أخلاقك إلى مستواه .. وأن تبتعد عن العلاقات المحرمة

- الأمر صعب .. أنت لا تعلم ماذا تمثل (جيسيكا) بالنسبة لي

- أنا لا أريدك أن تخسر حياتك .. ولكنك الآن عرفت أن الإسلام هو دين الأخلاق.. وتمنيت بنفسك أن تصل إلى مستوى أخلاقه.. فلِمَ لا تعتنقه يا (جوني)؟

- أعتنقه !!

- نعم يا صديقي .. أنا أدعوك إلى الإسلام.. وسأرسل لك رابطا للمصحف المترجم مع التفسير الكامل.. ورابطا آخر لسيرة النبي محمد صلى الله عليه وسلم لتقرأها بعد أن شاهدتها

- ولكنني سأخسرهم!

- ستكسب ربك ودينك.. ستكسب الحق والصواب.. وربما تكون سببا في هداية آخرين

- سأخسر (جيسيكا)

- وماذا في هذا؟؟

- إنني أحبها !

- إذن ادعها إلى مشاهدة الفيلم وقراءة القرآن .. شجعها على الاقتراب وتغيير حياتها نحو الأفضل .. هل تقبل أن تظل غارقا معها في الحرام وتنجب ولدا بعيدا عن الأخلاق الفروسية الإسلامية الرائعة؟

- لا أريد ذلك

- ماذا تنتظر إذن يا صديقي؟

ساد الصمت فعلمت أنه يفكر.. عدت أقول:

- غدا أقول لك يا أخي.. أخي الحبيب في الاسلام

ابتسم وكنت أعلم أنه شديد التوتر فهو يمر بقرار سيقلب حياته رأسا على عقب.. أنهيت الحوار ثم استندت إلى مقعدي مرة أخرى وأنا أقول في عمق:

- ثبته يا إلهي وساعدني على البقاء إلى جواره .. يا رب !