مملكة الإبداع

إنها مملكة أهديها إلى أعز الناس، وأحب الناس، وأغلى الناس، فهي من أرشدتني إلى إنشائها وإليها أهدي كل الكلمات..

موعد مع الكرامة - النهاية

تلفت "وصفي شامخ" حوله في قلق وتوتر، حينما اقترب من موقع (سبايدر) المحدد على الخريطة، وقال:
- لا أشعر بالاطمئنان أبدا.. المكان هادئ أكثر من اللازم.
هتف أحد رجاله:
- لقد قضينا على مقاومتهم منذ اللحظة الأولى يا سيدي.
أجابه "وصفي":
- هذا لا يعني شيئا.
وصمت لحظات ثم أشار إلى رجاله بالالتفاف حول مدخل غرفة (سبايدر) وقال آمرا:
- استعدوا.. سنهاجم عند رقم ثلاثة.
تمسك الجميع بمدافعهم في صلابة وحبسوا أنفاسهم حتى صرخ قائدهم بالرقم ثلاثة، فاندفعوا بكل حماسهم نحو مدخل المكان..
وفجأة، انطلقت مئات من أشعة الليزر من داخل الحجرة لتقتل عشرات الرجال في ثانيتين فقط، وتصاعدت شعل نارية وكتل هائلة من اللهب عبر مدخل المكان لتشوي الأجساد وتنطلق صرخات الألم والعذاب..
وبعد أربعة لحظات من بدأ الهجوم كان ثلاثة أرباع القوة العربية قد تحولت إلى جثث ممزقة أو محترقة، فصرخ "وصفي" بكل قوته وهو يتراجع في مرونة:
- تراجعوا.. إنه فخ.
واستمر سقوط القتلى حتى تراجع من بقى على قيد الحياة، واصطفوا على جانبي مدخل الحجرة وهم يلهثون في عنف..
وصرخ أحد الرجال:
- لن يمكننا اقتحام هذا المكان.. إنه محاط بوسائل حراسة إلكترونية رهيبـ..
بتر عبارته وتألقت عيناه، فأدرك "وصفي" ما دار برأسه..
نعم..
حراسة إلكترونية..
ومثل هذه الحراسة يجب أن تستمد الطاقة الكهربية من مصدر ما..
ولكن الشهيد "عمر" دمر بنفسه مولد الكهرباء الرئيسي للمكان!!
وهنا، انتزعه نفس الرجل من تفكيره وهو يضيف في حسم:
- هناك مصدر كهرباء احتياطي إذن.
وبسرعة البرق، رفع "وصفي" الخريطة التي سلمها إليه "عمر" ليفحصها بمنتهى الدقة بحثا عن موقع المولد الاحتياطي..
كان يسمع تأوهات رجاله ولهاثهم المتواصل، وقد أدرك جيدا أن الهجوم بدون تدمير المولد هو الجنون بعينه..
سيخسرون حياتهم دون فائدة..
"ها هو"..
هتف "وصفي" بهذه الكلمة في حماس وهو يشير إلى موقع معين على الخريطة، وقال في ثقة:
- هذا هو الموقع الوحيد الذي يصلح لتزويد المكان بالطاقة الكهربية.
وقفز على قدميه وهو يصيح في حماس:
- هيا يا رجال.
ولكن فجأة، ارتج المكان كله بمنتهى العنف، وارتفعت ألواح الصلب التي تغلق مداخل ومخارج المكان، فغمغم "وصفي" في توتر:
- زائر جديد إذن! ترى مـ..
وقبل أن يتم تساؤله، برزت عبر المدخل الشرقي للمكان آلة عجيبة تشبه مركبة فضائية صغيرة، واندفعت نحوهم مباشرة، فتعرفها على الفور وصرخ:
- يا إله السماوات !! إنها (إيريسَر) !!
وانهارت أعصاب الجميع..
وبمنتهى العنف..

***

كتم مدير المخابرات المصرية دموعه بمنتهى الصعوبة وهو يتابع التقرير الأخير الوارد من الولايات المتحدة، وأطلق تنهيدة حارة من أعماق صدره قائلا:
- رحمكم الله يا رجال.
علق مساعده متسائلا:
- هل تظن أن المهمة قد فشلت يا سيدي؟
أجابه المدير في حزم وسرعة:
- مستحيل.
وهب واقفا وهو يضيف:
- لن تذهب كل هذه الدماء هباءً في النهاية.
وحاول أن يتماسك مرة أخرى ثم تابع:
- سننجح بإذن الله.
ارتفع رنين قصير من جهاز الكمبيوتر الموضوع أمامه في هذه اللحظة، فأسرع يقرأ الرسالة الجديدة التي وصلته عبر الإنترنت، ثم انعقد حاجباه في شدة..
فهذه الرسالة الجديدة قد تعني الكثير..
والكثير جدا..

****

لم يستغرق "وصفي" إلا لحظة واحدة اتخذ بعدها قراره بمنتهى الحسم والصرامة، فالتفت إلى أحد رجاله وسلمه الخريطة وهو يشير إلى موقع المولد الاحتياطي قائلا بلهجة آمرة:
- هذه مهمتك.
اتسعت عينا الرجل في ارتياع حينما أدرك ما يعنيه هذا وصاح:
- لا يمكنك أن تتصدى وحدك لهذه الـ..
قاطعه "وصفي" هذه المرة صارخا:
- اذهب.
امتلأت عينا الرجل بالدموع، لكنه أسرع يشير لباقي الرجال وقال بصوت متحشرج:
- هيا يا رجال.
وقف "وصفي" يتابعهم في صمت حتى اختفوا داخل أحد الممرات، ثم عاد يلتفت إلى (إيريسَر) التي تقترب منه في سرعة، وانعقد حاجباه قائلا في إيمان:
- هل تظنني أخاف الموت أيها الحقير؟
ثم تقدم في خطوات قوية نحوها وصوب إليها مدفعه الرشاش وأخرج أحد القنابل اليدوية بيده الأخرى واستعد لنزع فتيلها وهو يتابع:
- أشهد أن لا إله إلا الله.. وأن محمدا رسول الله.
واأطلقت (إيريسَر) شعاعا أزرق نحوه، فنزع فتيل القنبلة بسرعة، و..
ودوى الانفجار بمنتهى العنف..

****

قفز مساعد مدير المخابرات المصرية داخل مكتب مديره وهو يهتف في سعادة:
- لقد أظلم مبنى السي آي إيه تماما وتوقفت وسائل دفاعاته!
لم يظهر أي رد فعل على ملامح هذا الأخير، ثم زفر في مرارة وهو يجيب:
- وهل تجد ما تقوله شيئا مفرحا بعد أن حدث هذا؟!
وأشعل شاشة بروجكتور كبيرة أمامه، وأعاد مشهدا معينا، فشهق مساعده وهو يردد:
- يا إلهي!
فأمامه مباشرة كانت (إيريسر) تنطلق في سماء فرجينيا نحو لانجلي مباشرة، وقال المدير:
- هذا المشهد تم التقاطه منذ عشرة دقائق.. وهذا يعني أن (إيريسَر) قد وصلت إلى هدفها بالفعل.. وأنت تعلم ما الذي يعنيه هذا.
وساد الصمت والسكون تماما هذه المرة..

****

كانت لحظة رائعة تلك التي ألقى فيها أربعة رجال من المخابرات العربية قنابلهم نحو المولد الاحتياطي، وحينما انفجر بدوي هائل ليسود الظلام في كل مكان وتتعطل وسائل الأمن في المقر كله..
وبسرعة قال أحدهم لزملائه:
- استخدموا الكشافات الكهربية الصغيرة الموجودة في ساعاتكم.. سنعود فورا إلى سبايدر.
ولكن أحد الرجال صرخ في ارتياع:
- انظر هناك..
فعلى بعد عشرات الأمتار كانت (إيريسَر) تنطلق نحوهم مباشرة وقد تجاوزت الانفجار الذي صنعه "وصفي" بمنتهى السهولة دون أن يؤثر فيها ولو بخدش واحد، وقد تركت خلفها جثة هذا الأخير التي تحولت إلى كومة من العظام والدماء..
وفي مرارة، عض الرجل الأول على شفتيه وقال:
- رحمك الله يا "وصفي".
صرخ الرجل الثاني:
- إنها تقترب.. لم يعد هناك مهرب.
انعقد حاجبا الأول لحظة واحدة، ثم أشار إلى زملائه وصاح:
- هيا.. سننطلق إلى سبايدر.. سندمره أولا وبعدها فليحدث ما يحدث.
وانطلق الجميع نحو سبايدر..
وخلفهم، انطلقت (إيريسَر)..
وبدا من الواضح أنها ستلحق بهم في سهولة فسرعتها عشرة أضعاف سرعتهم تقريبا خصوصا مع الألم والإرهاق الذي يعانون منه..
وأن تنجح في القضاء عليهم..
فيبقى (سبايدر)..
ويختفي الأقصى..
إلى الأبد..

****

عندما يبذل الأبطال أرواحهم ودماءهم في سبيل رسالتهم..
عندما يتمكن الإيمان من القلوب فتكون الرسالة أهم من الحياة ولا يساوي الموت شيئا..
عندما يثبت كل مسلم وكل عربي أنه جدير بحمل هذه الرسالة وجدير بالدفاع عنها..
عندما يصل كل منا في موعده..
موعده مع الحرية..
موعده مع الكرامة!
حينئذ يتحقق النصر..
حينئذ تتدخل العناية الإلهية ويقول الله عز وجل: كن.. فيكون..

ففي اللحظة نفسها التي لحقت فيها (إيريسَر) بالعرب وبدأت في إطلاق أشعتها، انفجر سقف المكان في عنف رهيب إثر طلقة صاروخية عنيفة أطاحت به تماما، وكشفت المقر لتصنع أعلاه فجوة كبيرة..
وتوقف الجميع في ذهول..
فهذه الضربة الساحقة لا يمكن أن يصنعها جيش من الرجال..
ولا حتى دبابة..
ولا حتى طائرة حربية!!
ما الذي يمكن أن يكون بهذه القوة إذن؟!

وعبر هذه الفجوة الواسعة، ظهرت طائرة صغيرة تشبه الهليوكوبتر لكنها بلا ذيل، وتضع في مقدمتها عدة مدافع قوية من الصلب..
ولم يتوقف الرجال لحظة واحدة ليشاهدوا ما حدث..
لقد أسرعوا يتابعون طريقهم مباشرة نحو حجرة (سبايدر)..
ولأن (إيريسَر) مبرمجة بحيث تمنع أي اعتداء على (سبايدر) فقد تجاهلت تلك الطائرة الجديدة وانطلقت خلف الرجال..
ولكن صاروخين موجهين انفصلا عن مقدمة الطائرة الجديدة وأطاحا بـ (إيريسَر) بمنتهى العنف، فارتطمت بجدار المكان وانفجرت لتتطاير شظاياها في كل مكان، في حين أسرعت الطائرة تبتعد عبر نفس الفجوة لتعود من حيث أتت..

ولا أحد يمكن أن يتخيل ذلك الحماس الذي سيطر على رجال المخابرات العربية وهم يتجهون إلى هدفهم..
وفي نعومة، بدأ تسلسل الذكريات يمر أمام أعينهم..
"فارس"..
"جهاد"..
"فاتن"..
"عمر"..
"كمال"..
"جلال"..
"وصفي"..

الأبطال الذين ضحوا بكل قطرة دم في سبيل الأقصى..
الأبطال الذين - لعلهم - يشاهدون هذا المشهد الآن في سعادة وقد اقترب الحلم الذي عاشوا وماتوا من أجله..

وفي مشهد تاريخي يستحق أن يقف له الجميع في رهبة واحترام، أحاط الرجال بحجرة سبايدر وصاحوا جميعا بصوت واحد وهم ينزعون فتيل القنابل ويلقونها في نفس اللحظة:
- الله أكبر.

وكان هذا الانفجار هو الأشد..
الأشد على الإطلاق..

****

"ولكنني لم أفهم.. كيف نجح رجالنا في مواجهة (إيريسَر)؟!"
هتف مساعد مدير المخابرات المصرية بهذه العبارة في فضول وهو يواجه مديره، فابتسم الأخير وأجاب:
- ألم تكن بصحبتي حينما أرسل الرقيب (إسنوفيتش) رسالته الإلكترونية؟
أومأ برأسه وأجاب:
- بلى.
تابع المدير:
- لقد كانت رسالة مختصرة للغاية، تقول أن الروس على علم بكل ما يحدث منذ البداية، ويجدون فيه فرصة مناسبة ليتدخلوا بشكل غير مباشر، ويلقنون عدوهم القديم درسا قاسيا.
انعقد حاجبا المساعد وغمغم:
- تقصد أمريكا؟
ابتسم المدير وأجاب:
- من غيرها؟
ونهض من مقعده وهو يتابع:
- لقد عرض علينا أن يُرْسِل واحدة من مقاتلات جيش الدفاع الروسي لمؤازرتنا في عملية الأقصى، بهدف تدمير مقر السي آي إيه وإلحاق خسائر فادحة بالأمريكان، ولكن بشرط واحد هو أن يقود هذه المقاتلة رجل عربي حتى يبتعد اسم (روسيا) عن هذه العملية تماما.
واتسعت ابتسامته مؤكدا:
- ولقد حرصنا على هذا، وقاد أحد رجالنا المقاتلة لتنفيذ العملية في هدوء وسرعة وحسم.
لم يستطع المساعد كتم ضحكته وهو يقول:
- يا للسعادة! أعتقد أن هذه مكافأة إلهية غير متوقعة على الإطلاق.
علق المدير في خشوع:
- ونِعْمَ بالله.

وعاد إلى مقعده وهو يتنهد في عمق، ثم صمت لحظات وقال:
- لقد انتصرنا فوق جبال من الدماء والتضحيات.. انتصرنا فوق جثث الرجال وبقاياهم..
انتصرنا حينما حرصنا على كرامتنا وعلى ألا تنحني رؤوسنا إلا لله سبحانه وتعالى فقط..
انتصرنا حينما اتحدت قوانا وتكاملت، بدلا من أن ننفصل ونتشاجر..

نعم..
من هنا يأتي النصر..
والكرامة..

(تمت)

3 التعليقات:

السلام عليكم
حقيقة ليس هناك تعليق ابلغ من دمعتين انحدرتا علي وجنتاي ولمعتا في عيناي
رائعة هي كلمة قليلة عليها الاصح ان اقول مذهلة بكل المقاييس
سلمت يداك يادكتور

 

وعليكم السلام ورحمة الله وبركاته ،،
جزاكم الله خيرا وبارك فيكم..

 

كنت أنتظر النهاية وكنت أنوقعها رائعة ككل أحداث القصة ..
ولكنها حقاً فاقت الروعة بكثير ..
أعجبتني اللهجة التي تحث للعودة إلى الوحدة ولاسترداد الكرامة ..
نهاية رائعة والقصة بأكملها تحفة فنية ..

سلمت يمناك يا دكتور ،
تقبل مروري ..

 

إرسال تعليق