مملكة الإبداع

إنها مملكة أهديها إلى أعز الناس، وأحب الناس، وأغلى الناس، فهي من أرشدتني إلى إنشائها وإليها أهدي كل الكلمات..

موعد مع الكرامة - النهاية

تلفت "وصفي شامخ" حوله في قلق وتوتر، حينما اقترب من موقع (سبايدر) المحدد على الخريطة، وقال:
- لا أشعر بالاطمئنان أبدا.. المكان هادئ أكثر من اللازم.
هتف أحد رجاله:
- لقد قضينا على مقاومتهم منذ اللحظة الأولى يا سيدي.
أجابه "وصفي":
- هذا لا يعني شيئا.
وصمت لحظات ثم أشار إلى رجاله بالالتفاف حول مدخل غرفة (سبايدر) وقال آمرا:
- استعدوا.. سنهاجم عند رقم ثلاثة.
تمسك الجميع بمدافعهم في صلابة وحبسوا أنفاسهم حتى صرخ قائدهم بالرقم ثلاثة، فاندفعوا بكل حماسهم نحو مدخل المكان..
وفجأة، انطلقت مئات من أشعة الليزر من داخل الحجرة لتقتل عشرات الرجال في ثانيتين فقط، وتصاعدت شعل نارية وكتل هائلة من اللهب عبر مدخل المكان لتشوي الأجساد وتنطلق صرخات الألم والعذاب..
وبعد أربعة لحظات من بدأ الهجوم كان ثلاثة أرباع القوة العربية قد تحولت إلى جثث ممزقة أو محترقة، فصرخ "وصفي" بكل قوته وهو يتراجع في مرونة:
- تراجعوا.. إنه فخ.
واستمر سقوط القتلى حتى تراجع من بقى على قيد الحياة، واصطفوا على جانبي مدخل الحجرة وهم يلهثون في عنف..
وصرخ أحد الرجال:
- لن يمكننا اقتحام هذا المكان.. إنه محاط بوسائل حراسة إلكترونية رهيبـ..
بتر عبارته وتألقت عيناه، فأدرك "وصفي" ما دار برأسه..
نعم..
حراسة إلكترونية..
ومثل هذه الحراسة يجب أن تستمد الطاقة الكهربية من مصدر ما..
ولكن الشهيد "عمر" دمر بنفسه مولد الكهرباء الرئيسي للمكان!!
وهنا، انتزعه نفس الرجل من تفكيره وهو يضيف في حسم:
- هناك مصدر كهرباء احتياطي إذن.
وبسرعة البرق، رفع "وصفي" الخريطة التي سلمها إليه "عمر" ليفحصها بمنتهى الدقة بحثا عن موقع المولد الاحتياطي..
كان يسمع تأوهات رجاله ولهاثهم المتواصل، وقد أدرك جيدا أن الهجوم بدون تدمير المولد هو الجنون بعينه..
سيخسرون حياتهم دون فائدة..
"ها هو"..
هتف "وصفي" بهذه الكلمة في حماس وهو يشير إلى موقع معين على الخريطة، وقال في ثقة:
- هذا هو الموقع الوحيد الذي يصلح لتزويد المكان بالطاقة الكهربية.
وقفز على قدميه وهو يصيح في حماس:
- هيا يا رجال.
ولكن فجأة، ارتج المكان كله بمنتهى العنف، وارتفعت ألواح الصلب التي تغلق مداخل ومخارج المكان، فغمغم "وصفي" في توتر:
- زائر جديد إذن! ترى مـ..
وقبل أن يتم تساؤله، برزت عبر المدخل الشرقي للمكان آلة عجيبة تشبه مركبة فضائية صغيرة، واندفعت نحوهم مباشرة، فتعرفها على الفور وصرخ:
- يا إله السماوات !! إنها (إيريسَر) !!
وانهارت أعصاب الجميع..
وبمنتهى العنف..

***

كتم مدير المخابرات المصرية دموعه بمنتهى الصعوبة وهو يتابع التقرير الأخير الوارد من الولايات المتحدة، وأطلق تنهيدة حارة من أعماق صدره قائلا:
- رحمكم الله يا رجال.
علق مساعده متسائلا:
- هل تظن أن المهمة قد فشلت يا سيدي؟
أجابه المدير في حزم وسرعة:
- مستحيل.
وهب واقفا وهو يضيف:
- لن تذهب كل هذه الدماء هباءً في النهاية.
وحاول أن يتماسك مرة أخرى ثم تابع:
- سننجح بإذن الله.
ارتفع رنين قصير من جهاز الكمبيوتر الموضوع أمامه في هذه اللحظة، فأسرع يقرأ الرسالة الجديدة التي وصلته عبر الإنترنت، ثم انعقد حاجباه في شدة..
فهذه الرسالة الجديدة قد تعني الكثير..
والكثير جدا..

****

لم يستغرق "وصفي" إلا لحظة واحدة اتخذ بعدها قراره بمنتهى الحسم والصرامة، فالتفت إلى أحد رجاله وسلمه الخريطة وهو يشير إلى موقع المولد الاحتياطي قائلا بلهجة آمرة:
- هذه مهمتك.
اتسعت عينا الرجل في ارتياع حينما أدرك ما يعنيه هذا وصاح:
- لا يمكنك أن تتصدى وحدك لهذه الـ..
قاطعه "وصفي" هذه المرة صارخا:
- اذهب.
امتلأت عينا الرجل بالدموع، لكنه أسرع يشير لباقي الرجال وقال بصوت متحشرج:
- هيا يا رجال.
وقف "وصفي" يتابعهم في صمت حتى اختفوا داخل أحد الممرات، ثم عاد يلتفت إلى (إيريسَر) التي تقترب منه في سرعة، وانعقد حاجباه قائلا في إيمان:
- هل تظنني أخاف الموت أيها الحقير؟
ثم تقدم في خطوات قوية نحوها وصوب إليها مدفعه الرشاش وأخرج أحد القنابل اليدوية بيده الأخرى واستعد لنزع فتيلها وهو يتابع:
- أشهد أن لا إله إلا الله.. وأن محمدا رسول الله.
واأطلقت (إيريسَر) شعاعا أزرق نحوه، فنزع فتيل القنبلة بسرعة، و..
ودوى الانفجار بمنتهى العنف..

****

قفز مساعد مدير المخابرات المصرية داخل مكتب مديره وهو يهتف في سعادة:
- لقد أظلم مبنى السي آي إيه تماما وتوقفت وسائل دفاعاته!
لم يظهر أي رد فعل على ملامح هذا الأخير، ثم زفر في مرارة وهو يجيب:
- وهل تجد ما تقوله شيئا مفرحا بعد أن حدث هذا؟!
وأشعل شاشة بروجكتور كبيرة أمامه، وأعاد مشهدا معينا، فشهق مساعده وهو يردد:
- يا إلهي!
فأمامه مباشرة كانت (إيريسر) تنطلق في سماء فرجينيا نحو لانجلي مباشرة، وقال المدير:
- هذا المشهد تم التقاطه منذ عشرة دقائق.. وهذا يعني أن (إيريسَر) قد وصلت إلى هدفها بالفعل.. وأنت تعلم ما الذي يعنيه هذا.
وساد الصمت والسكون تماما هذه المرة..

****

كانت لحظة رائعة تلك التي ألقى فيها أربعة رجال من المخابرات العربية قنابلهم نحو المولد الاحتياطي، وحينما انفجر بدوي هائل ليسود الظلام في كل مكان وتتعطل وسائل الأمن في المقر كله..
وبسرعة قال أحدهم لزملائه:
- استخدموا الكشافات الكهربية الصغيرة الموجودة في ساعاتكم.. سنعود فورا إلى سبايدر.
ولكن أحد الرجال صرخ في ارتياع:
- انظر هناك..
فعلى بعد عشرات الأمتار كانت (إيريسَر) تنطلق نحوهم مباشرة وقد تجاوزت الانفجار الذي صنعه "وصفي" بمنتهى السهولة دون أن يؤثر فيها ولو بخدش واحد، وقد تركت خلفها جثة هذا الأخير التي تحولت إلى كومة من العظام والدماء..
وفي مرارة، عض الرجل الأول على شفتيه وقال:
- رحمك الله يا "وصفي".
صرخ الرجل الثاني:
- إنها تقترب.. لم يعد هناك مهرب.
انعقد حاجبا الأول لحظة واحدة، ثم أشار إلى زملائه وصاح:
- هيا.. سننطلق إلى سبايدر.. سندمره أولا وبعدها فليحدث ما يحدث.
وانطلق الجميع نحو سبايدر..
وخلفهم، انطلقت (إيريسَر)..
وبدا من الواضح أنها ستلحق بهم في سهولة فسرعتها عشرة أضعاف سرعتهم تقريبا خصوصا مع الألم والإرهاق الذي يعانون منه..
وأن تنجح في القضاء عليهم..
فيبقى (سبايدر)..
ويختفي الأقصى..
إلى الأبد..

****

عندما يبذل الأبطال أرواحهم ودماءهم في سبيل رسالتهم..
عندما يتمكن الإيمان من القلوب فتكون الرسالة أهم من الحياة ولا يساوي الموت شيئا..
عندما يثبت كل مسلم وكل عربي أنه جدير بحمل هذه الرسالة وجدير بالدفاع عنها..
عندما يصل كل منا في موعده..
موعده مع الحرية..
موعده مع الكرامة!
حينئذ يتحقق النصر..
حينئذ تتدخل العناية الإلهية ويقول الله عز وجل: كن.. فيكون..

ففي اللحظة نفسها التي لحقت فيها (إيريسَر) بالعرب وبدأت في إطلاق أشعتها، انفجر سقف المكان في عنف رهيب إثر طلقة صاروخية عنيفة أطاحت به تماما، وكشفت المقر لتصنع أعلاه فجوة كبيرة..
وتوقف الجميع في ذهول..
فهذه الضربة الساحقة لا يمكن أن يصنعها جيش من الرجال..
ولا حتى دبابة..
ولا حتى طائرة حربية!!
ما الذي يمكن أن يكون بهذه القوة إذن؟!

وعبر هذه الفجوة الواسعة، ظهرت طائرة صغيرة تشبه الهليوكوبتر لكنها بلا ذيل، وتضع في مقدمتها عدة مدافع قوية من الصلب..
ولم يتوقف الرجال لحظة واحدة ليشاهدوا ما حدث..
لقد أسرعوا يتابعون طريقهم مباشرة نحو حجرة (سبايدر)..
ولأن (إيريسَر) مبرمجة بحيث تمنع أي اعتداء على (سبايدر) فقد تجاهلت تلك الطائرة الجديدة وانطلقت خلف الرجال..
ولكن صاروخين موجهين انفصلا عن مقدمة الطائرة الجديدة وأطاحا بـ (إيريسَر) بمنتهى العنف، فارتطمت بجدار المكان وانفجرت لتتطاير شظاياها في كل مكان، في حين أسرعت الطائرة تبتعد عبر نفس الفجوة لتعود من حيث أتت..

ولا أحد يمكن أن يتخيل ذلك الحماس الذي سيطر على رجال المخابرات العربية وهم يتجهون إلى هدفهم..
وفي نعومة، بدأ تسلسل الذكريات يمر أمام أعينهم..
"فارس"..
"جهاد"..
"فاتن"..
"عمر"..
"كمال"..
"جلال"..
"وصفي"..

الأبطال الذين ضحوا بكل قطرة دم في سبيل الأقصى..
الأبطال الذين - لعلهم - يشاهدون هذا المشهد الآن في سعادة وقد اقترب الحلم الذي عاشوا وماتوا من أجله..

وفي مشهد تاريخي يستحق أن يقف له الجميع في رهبة واحترام، أحاط الرجال بحجرة سبايدر وصاحوا جميعا بصوت واحد وهم ينزعون فتيل القنابل ويلقونها في نفس اللحظة:
- الله أكبر.

وكان هذا الانفجار هو الأشد..
الأشد على الإطلاق..

****

"ولكنني لم أفهم.. كيف نجح رجالنا في مواجهة (إيريسَر)؟!"
هتف مساعد مدير المخابرات المصرية بهذه العبارة في فضول وهو يواجه مديره، فابتسم الأخير وأجاب:
- ألم تكن بصحبتي حينما أرسل الرقيب (إسنوفيتش) رسالته الإلكترونية؟
أومأ برأسه وأجاب:
- بلى.
تابع المدير:
- لقد كانت رسالة مختصرة للغاية، تقول أن الروس على علم بكل ما يحدث منذ البداية، ويجدون فيه فرصة مناسبة ليتدخلوا بشكل غير مباشر، ويلقنون عدوهم القديم درسا قاسيا.
انعقد حاجبا المساعد وغمغم:
- تقصد أمريكا؟
ابتسم المدير وأجاب:
- من غيرها؟
ونهض من مقعده وهو يتابع:
- لقد عرض علينا أن يُرْسِل واحدة من مقاتلات جيش الدفاع الروسي لمؤازرتنا في عملية الأقصى، بهدف تدمير مقر السي آي إيه وإلحاق خسائر فادحة بالأمريكان، ولكن بشرط واحد هو أن يقود هذه المقاتلة رجل عربي حتى يبتعد اسم (روسيا) عن هذه العملية تماما.
واتسعت ابتسامته مؤكدا:
- ولقد حرصنا على هذا، وقاد أحد رجالنا المقاتلة لتنفيذ العملية في هدوء وسرعة وحسم.
لم يستطع المساعد كتم ضحكته وهو يقول:
- يا للسعادة! أعتقد أن هذه مكافأة إلهية غير متوقعة على الإطلاق.
علق المدير في خشوع:
- ونِعْمَ بالله.

وعاد إلى مقعده وهو يتنهد في عمق، ثم صمت لحظات وقال:
- لقد انتصرنا فوق جبال من الدماء والتضحيات.. انتصرنا فوق جثث الرجال وبقاياهم..
انتصرنا حينما حرصنا على كرامتنا وعلى ألا تنحني رؤوسنا إلا لله سبحانه وتعالى فقط..
انتصرنا حينما اتحدت قوانا وتكاملت، بدلا من أن ننفصل ونتشاجر..

نعم..
من هنا يأتي النصر..
والكرامة..

(تمت)

قضبان من نار.. الفصل الرابع

ضغط دكتور "بيتر فوميل" زر رتاج باب حجرة الأشعة فتألق بضوء أزرق فيروزي وانبعث صوت آلي يقول:
- جاري التحقق من الشخصية.. رجاء ابرز هويتك.

وضع دكتور بيتر راحته في المكان المخصص لها فتألق بوهج أحمر قاتم ثم أخرج من جيب معطفه بطاقته الإلكترونية ودسها في المكان المخصص لها..

انبعث الصوت الآلي مرة أخري قائلا:
- دكتور بيتر فوميل.. تم التحقق من الشخصية.

انفتح الباب بهدوء وخطى دكتور بيتر داخل الحجرة محدثا نفسه:
- ليلة طويلة من العمل الشاق مرة أخرى! كم أشتاق لفنجان من القهوة.

ثم احتل المقعد المخصص له قائلا:
- كيف حالك أيها الفيروس اللعين؟ أما زلت تعاند وترفض أي نوع من الأشعة لاختراقك؟

ضغط زر جهاز التسجيل الصوتي ثم قال:
- لازالت الأبحاث لم تسفر عن جديد, لم يخترق أي نوع من الأشعة تم استخدامه في التجربة الغلاف البروتيني للفيروس (إف 33).. تم استخدام أشعة إكس والأشعة تحت الحمراء والأشعة فوق البنفسيجية.. أرجح أن ذلك بسبب تلك المادة التي لا يزال تركيبها مجهولا (سي إف 7) في غلافه البروتيني.. جاري العمل علي فصل تلك المادة الآن.

تناول دكتور بيتر أنبوب اختبار معدني ووضعه في الفراغ المخصص له في جهاز أمامه، ثم ضغط عدة أزرار بترتيب معين، وبعدها انتظر عدة دقائق حتى انبعث صوت آلي يقول:
- تمت العملية بنجاح, ولا زال تركيب المادة مجهولا.

عاد يضغط زرا آخر قائلا:
- والآن إجراء التحليل الطيفي.

انفصل أنبوب جديد داخل الجهاز يحوي تلك المادة واستقر في فراغ آخر ودكتور بيتر يتابعه عبر الزجاج الشفاف في شغف..

تألق باب الحجرة بوهج أزرق فيروزي مرة أخري فتساءل في نفسه:
- تري من زائر نصف الليل هذا؟!

انفرج الباب بهدوء فتهللت أسارير وجهه قائلا:
- لا تدري كم سعدت بقدومك يا صديقي العزيز.. لقد كدت أموت مللا! هلا أحضرت لنا فنجانين من القهو..

وقبل أن تتم عبارته أصابته طلقة ليزرية في منتصف جبهته تماما صرعته في الحال..

واتجه القاتل إلي الجهاز الذي كان يعمل عليه دكتور بيتر منذ دقائق وضغط زرا صغيرا فانفتح الغطاء الشفاف ليستولي علي أنبوبتي الإختبار وهم يغمغم في سخرية:
- اذهب الي الجحيم.. من يهتم بتركيب هذه المادة ايها اللعين؟! الأهم هو ما تستطيع فعله..

واتجه إلي جثة دكتور بيتر الملقاة أرضا وانتزع بطاقته الإلكترونية من جيب معطفه وهو يرمقه بنظرة ساخرة، ثم غادر الحجرة بهدوء تاركا وراءه لغزا غامضا لأبعد الحدود..

*****

اجتاز مدير أمن المركز مستر "إدواردز" اختبارات التحقق من الشخصية في قلق وتوتر بعد هذا الإستدعاء العاجل له من قبل مدير المركز "جون ماركوس" وهو يعلم جيدا أن مقتل دكتور بيتر هو السر الغامض وراء هذا الإستدعاء مما سبب له مزيدا من التوتر..

جلس إدواردز أمام مكتب دكتور جون في توتر تام حتي سأله:
- ماذا لديك حتي الآن بشأن مقتل دكتور بيتر؟

أخذ إدواردز نفسا عميقا محاولا السيطرة علي أعصابه الثائرة قائلا:
- تم إحاطة الخبر بسرية تامة حتي لا نثير وسائل الإعلام، وأصدرنا تصريحا يفيد بسفر دكتور بيتر العاجل الي إنجلترا لإنجاز بعض المهام هناك و..

قاطعه جون في عصبية:
- ليس هذا ما أقصده.. ماذا توصلتم بشأن التحقيقات؟

نطق ماركوس هذا السؤال في توتر واضح فتنحنح إدواردز قائلا:

- صرح الطبيب الشرعي أن مقتل دكتور بيتر بسبب طلقة ليزرية أصابت منتصف جبهته تماما واخترقت مخه مباشرة فأودت بحياته في حينها, وحدد موعد الحادث بالساعة الثالثة والربع بعد منتصف الليل, وأسفر البحث عن فقدان بطاقة دكتور بيتر الإلكترونية، وفيما عدا..

نهض جون من مقعده وغمغم مفكرا:

- ولم بطاقته الإلكترونية؟! وكيف سيتجاوز باقي وسائل التحقق من الشخصية؟

لوح إدواردز بكفه في حيرة قائلا :

- لست أدري فيم سيفيده هذا بالتحديد.

عاد جون يغمغم في تساؤل وهو يدور في أنحاء الحجرة:

- هل تدري ما معني أن الحادث قد وقع داخل غرفة الأشعة؟

أجابه في حيرة:

- لست أدري مقصد سؤالك يا سيدي.

استدار اليه جون قائلا:

- معني هذا أن القاتل واحد من ستة علماء من الفئة (ب) فقط المسموح لهم بدخول تلك الحجرة.. إذن ينحصر القاتل في خمسة علماء باستثناء دكتور بيتر.

ثم عاد يدور في الحجرة قائلا:

- لدينا قاتل بدرجة عالم فيروسات!

استدار مرة أخري لإدواردز متسائلا:

- ماذا عن مسرح الجريمة؟

اجاب إدواردز في سرعة:

- تم الحصول علي جهاز التسجيل الصوتي الذي كان يعمل عليه دكتور بيتر قبل قتله مباشرة وكان فحوى التسجيل خطيراً لأبعد الحدود.

ابتلع ريقه في صعوبة ثم أكمل:

- كان دكتور بيتر يعمل علي فيروس (إف 33) وهو أحد الفيروسات التي تصيب الكبد وكانت أبحاث دكتور بيتر تدور حول اكتشاف علاج له وقد ذكر شيئا بخصوص مادة تسمي (سي إف 7) وهي مادة مجهولة التركيب تماما كان دكتور بيتر يعزي صلابة هذا الفيروس إليها حيث توجد في غلافه البروتيني والأهم أننا لم نجد أي أثر لأنبوبة اختبار في الجهاز الموضوع أمام الجثة.

صمت دقيقة التقط فيها أنفاسه ثم أكمل:

- وكانت آخر كلمات سجلها الجهاز محيرة تماما.

ثم ضغط زر جهاز التسجيل الصوتي فانبعث الحوار الذي دار في الغرفة منذ أن دخلها بيتر.. وبعد أن انتهى ران صمت مهيب علي الاثنين ثم عاد جون يقول:

- إما أننا نتعامل مع شخص قمة في الإهمال وإما أننا نواجه قاتلا محترفا وليس عالما محترما.

ثم عاد لصمته دقائق ثم قال:

- هل هو بالسذاجة حيث ترك جهاز التسجيل الصوتي يعمل مع علمه بأنه شديد الحساسية وسيسجل كل كلمة ولو همسا؟! ثم هذا يضع أمامنا سؤالا آخر.. كيف سيستخدم البطاقة الإلكترونية؟!

صمت قليلا ثم برقت عيناه قائلا:

- أعد اجتماع عاجل بعلماء الفئة (ب).. لن ينتهي هذا الإجتماع إلا وقد عرفت من القاتل.

انصرف إدواردز في سرعة ليعد ذلك الإجتماع الطارئ، وبعد انصرافه غمغم جون في ضيق:

- هذا ما كان ينقصنا !!


******

انطلقت أجهزة التكييف تعمل في كل ركن من أركان القاعة الواسعة التي ضمت علماء الفئة (ب) مع رئيسهم "جون ماركوس" ومدير الأمن "إدواردز"، وساد سكون تام بين الجميع حتى استقر كل رجل في مكانه وارتفعت العيون في توتر لترمق رأس المائدة التي يحتلها ماركوس، حتى تنحنح هذا الأخير وقال بلهجة رصينة وحازمة:
- مرحبا أيها السادة.. يُسْعِدني أن نجتمع معا مجددا، ولكن ظروف هذا الاجتماع في الواقع ليست عادية على الإطلاق.

نجحت كلماته في بث أكبر قدر من التوتر والقلق في نفوس العلماء، الذين ارتسم على وجوههم مزيدا من الترقب، حتى أكمل إدواردز حديث ماركوس قائلا:
- زميلكم.. "بيتر".. قُتِلَ البارحة في غرفة الفحص والأشعة.

سرت همهمة وشهقات عنيفة بينهم فأسرع ماركوس يقول:
- حافظوا على تماسككم وهدوئكم.. الأمر لا يزال تحت السيطرة الكاملة.

ونصب إدواردز قامته وهو يقول في قوة:
- التحريات تجري الآن على قدم وساق لمعرفة هوية القاتل، وسنصل إليه إن آجلا أو عاجلا.. أعلم أن ما حدث قد يدل على وجود قصور في النظام الأمني ولكن يبدو أن القاتل استطاع دخول الحجرة بشكل طبيعي دون حدوث أي نوع من الاقتحام أو العنف.. وبمجرد أن استطاع الدخول، قتل بيتر ثم هرب.

غمغم أحدهم في عصبية شديدة:
- هل هذا يعني أن القاتل أحدنا؟

ارتفعت كلمات الاستنكار من زملائه فصاح إدواردز:
- اهدءوا.. هذا هو أول ما جال بخاطرنا أيضا.. فليس من المسموح دخول غرفة الفحص إلا لكم أنتم فقط.. وهذا قد يضعكم بالفعل في موضع شبهة لو لم نكن نعرفكم جيدا ونثق فيكم تماما.

وبرقت عيناه وهو يتابع في حسم:
- سيسقط القاتل في قبضتنا.. وفي أسرع وقت ممكن..

وعاد الصمت يغلف كل شيء..

*****

تابع 2: موعد مع الكرامة.. الفصل الخامس

- "حرب"!!
صرخ رئيس الولايات المتحدة الأمريكية بهذه العبارة في غضب هائل وهو يتابع التقارير الواردة من "لانجلي"، ثم ألقى بها جانبا وهو يصيح بكل ثورة الدنيا:
- لا أحد يستطيع أن يفعل هذا بنا !.. لا أحد يتحدى القوة العظمى الأولى في العالم!
تنحنح رجل طويل يقف أمامه في احترام، ثم قال:
- إنهم العرب بلا شك.
أطلت نظرة نارية من عيني الرئيس، ثم أجاب:
- نعم.. إنهم العرب.
استقر لدقائق خلف مكتبه وهو يفكر في عمق، ثم اعتدل وقال للرجل الذي يقف أمامه:
- إنهم يريدونها حربا.. فليكن.. لهم ما أرادوا.
وضرب سطح مكتبه بقبضته وهو يصرخ:
- أرسل إليهم (إيريسَر) حالا.
وأسرع الرجل لينفذ الأمر..

****

انقسمت شاشة كمبيوتر عملاقة إلى عشرات الأقسام، وظهر في كل قسم وجه رئيس دولة عربية مختلفة، في أحد أخطر وأهم اجتماعات الفيديو (الفيديو كونفرنس) التي يشهدها التاريخ العربي، وساد الصمت لحظات حتى يتأكد الخبراء من سرية الاجتماع، ثم قال الرئيس المصري بسرعة:
- السلام عليكم أيها السادة.
أجاب الجميع تحيته بنفس السرعة، ثم قال الرئيس السوداني في قلق:
- هناك أمر ما يثير قلقنا بشدة، ولا أظن أنه يحتمل الانتظار.
ساد الصمت مرة أخرى حتى قال الرئيس العراقي:
- هات ما عندك.
أجابه:
- هل تعلمون بأمر (إيريسَر)؟!
أجابه السلطان العماني في ثقة:
- ومن ذا لا يعلم بأمره؟ إنه سلاح أمريكي حديث، تم إنتاجه منذ شهرين تقريبا، وهو يعد معجزة في عالم التكنولوجيا، بقدراته القتالية المدهشة التي تجعله يكتسح كل ما ومن يقف أمامه، ويمسحه من على وجه الأرض، وهذا هو السبب وراء تسميته بإيريسَر التي تعني (الممحاة) بالإنجليزية.
وهنا غمغم الرئيس المصري:
- لا تقل لي أن الولايات المتحدة سـ..
أجابه الرئيس السوداني في قلق:
- هذا ما أخشاه.. لو أطلقوا (إيريسَر) خلف رجالنا فستكون كارثة.
ساد الصمت مرة أخرى وكل منهم يقلب الفكرة الجديدة في رأسه، حتى قال الرئيس السوري في حزم:
- وماذا في هذا؟ رجالنا يرتدون زي الكوماندوز ويعلمون أنهم في مهمة انتحارية لن يعودوا منها أبدا.
هتف الرئيس الليبي مستنكرا:
- هل يعني هذا أن نتخلى عنهم؟!
أجاب الرئيس السوري في عصبية:
- من تحدث عن التخلي عنهم؟ ألا تستطيع فهم كلماتي جيدا؟!
تدخل الرئيس التونسي وهو يسأل في توتر:
- ماذا كنت تقصد إذن لو لم يكن هذا؟
صاح الرئيس الجزائري الذي ظل صامتا منذ البداية:
- كفى بالله عليكم!!
عاد الصمت يحتوي كل شيء، قبل أن يتابع الرجل في حزم:
- لقد اجتمعنا في وقت وظروف لا تسمح إطلاقا بأي حوارات جانبية أو مشادات من أي نوع، رجالنا هناك يواجهون الموت في سبيل الأقصى ونحن هنا نتشاجر!!
كان الرئيس المصري هو أول من علق على كلامه بعد أن صمت الجميع، حينما قال في صلابة:
- صدقت.
واعتدل وهو يُكمِل في قوة:
- لو أطلقت الولايات المتحدة سلاحها سنحتاج لإرسال الفرقة الثانية، وهذا سيستلزم مزيدا من المال.
تدخل ملك السعودية قائلا في ثقة:
- دع مشكلة التمويل لنا.
وأكمل الرئيس الإماراتي بنفس الثقة:
- ولنا أيضا.
وأسرع الأمير القطري يضيف:
- ونحن كذلك.
ابتسم الرئيس المصري، وأجاب:
- هذا عظيم.
اندفع الرئيس العراقي يقول في عصبية شديدة:
- عظيم! ألا ترون أننا قد أغفلنا نقطة بالغة الأهمية يا سادة؟
أنصت الجميع إليه وهو يتابع:
- ماذا لو سقط أحد رجالنا بين أيديهم؟ سيثير هذا أزمة دبلوماسية ضخمة قد تؤدي إلى إشعال حرب دموية بلا نهاية.
ابتسم ملك المغرب وأجاب:
- من قال أننا لا نملك خطة متقنة لهذا أيضا؟
وأكمل الأمير الكويتي في حزم:
- كل رجل من رجالنا لا يحمل على الإطلاق أي شيء قد يشير إلى هويته العربية.
تساءل الرئيس اليمني في قلق:
- أي صفة إذن يحملونها؟
هز الأمير القطري كتفيه وهو يجيب في غموض:
- خمن.
صاح الرئيس العراقي في توتر:
- لا مجال للتخمينات هنا !.. يبدو أنكم لا تعلمون مع من نتعامل! هؤلاء الأمريكيون قادرون على سحق ذبابة صغيرة وهي تسير فوق كأس زجاجي أنيق دون خدش الزجاج أو لمسه!
زجره ملك البحرين في صرامة، قائلا:
- دع عنك هذه اللهجة الانهزامية يا رجل! لا تدع ما حدث في دولتك يصور لك أنهم قوم لا يُهْزَمون! بالعكس، إنهم في منتهى الجبن عندما تتعقد الأمور، والرجل الواحد منا يساوي عشرون رجلا منهم.
وأكمل الرئيس اللبناني في قوة:
- إنهم كالإسرائيليين، يغترون بقوتهم، وينشرون حولهم دعاية زائفة لإمكانياتهم ويصورون للجميع أنه لا توجد قوة على الأرض يمكنها هزيمتهم، ولكن الحقيقة هي العكس تماما.. وهذا هو ما أثبتته مصر في حربها ضد إسرائيل.
أسرع الرئيس السوري يتدخل قائلا:
- تقصد ما أثبتناه مع مصر.
ارتفع فجأة صفير قصير يدوي عبر شبكة الإنترنت مصحوبا برسالة قصيرة ظهرت على شاشات الكمبيوتر أمام الجميع، فصاح الرئيس المصري في فزع حقيقي:
- يا للبشاعة!!
وهوت قلوب الجميع بين أقدامهم..
وبمنتهى العنف..

****

تابع: موعد مع الكرامة.. الفصل الخامس

عندما التحم "عمر" ورجاله مع رجال السي آي إيه كان من الواضح أن خطته قد أثمرت..
لقد منعهم من النوم لفترة طويلة حينما كان يراقبهم طوال الوقت فانخفضت كفاءتهم في شدة ولم يعد أحدهم قادرا على التركيز وهو يطلق رصاصاته، في حين أمطرهم رجال المخابرات العربية بسيل من الرصاصات الصائبة الذي أخرج معظمهم من المعركة في اللحظات الأولى..
صحيح أن "عمر" أيضا لم يعد قادرا على المواصلة بعد هذا المجهود الغير البشري، وبعد كم الدماء الهائل الذي فقده، ولكنه استجمع كل إرادته ليحافظ على وعيه وتركيزه وهو يتذكر "جلال عدنان" البطل السوري الذي ضحى بحياته وتحمل ما لا يتحمله بشر في سبيل رسالته..
في سبيل الأقصى..
وكانت هذه الكلمة الأخيرة وحدها كافية لكي يزداد إصرار "عمر" على المواصلة مليون مرة..
وفي اللحظة نفسها التي كاد فيها يصل مع رجاله إلى حجرة المولد الكهربي، كان مدير السي آي إيه يصرخ بـ "أنجيل" في ثورة:
- ونحن الذين ظننا أن العرب لا يعرفون شيئا عن "إس جى 22"! يا للغباء! يا للسذاجة!!
صاحت "أنجيل":
- لن يمكنهم هزيمتنا يا سيدي.. رجالنا سيسحقونهم سحقا.. هذا المولد الذي يسعون لتدميره ليس مصدر الكهرباء الوحيد للمكان كما تعلم.. سيبدأ المولد الاحتياطي عمله بعد خمس ثوان فقط من تدمير الأول.
غمغم في توتر:
- ربما يعلمون هذا أيضا.
هزت رأسها نفيا وأجابت في ثقة:
- مستحيل.
أسرع المدير يضغط زرا فوق مكتبه ويقول لرجاله آمرا:
- انفصلوا إلى فرقتين، ولتستمر الأولى في تعقب هؤلاء العرب، وتتجه الثانية لحراسة المولد الإحتياطي.
وكان هذا يعني أن تنقلب الأمور..
كل الأمور..

*****

اقتحم "عمر" ورجاله حجرة المولد الأساسي في عنف وأسرعوا ينزعون فتيل بعض القنابل اليدوية ويلقونها نحو المولد..
ودوى الانفجار..
وانقطع التيار الكهربي عن المكان كله..
وفي لحظات، ساد التوتر والهرج والمرج والتخبط بين رجال السي آي إيه..
وداخل حجرة المدير، اتسعت عينا هذا الأخير وتحشرج صوته وهو يهتف:
- اللعنة !!
أرهفت "أنجيل" سمعها لكي تفهم ما أصابه، فالتقطت أذناها هدير قوي لعدة طائرات هليوكوبتر حربية تطير فوق المكان مباشرة..
وبعدها بلحظات بدأ المولد الإحتياطي عمله لتعود الأضواء وكاميرات المراقبة للعمل..
ولكن خلال هذه اللحظات كانت ثلاث طائرات قد تجاوزت بالفعل أسوار المكان وألقت بثلاثة فرق من الرجال المسلحين داخل المكان..
وتراجع رجال السي آي إيه أكثر أمام هذا الهجوم المزدوج..
وازداد حماس "عمر" ورجاله أكثر..
وصرخت "أنجيل" بكل حنق الدنيا:
- اللعنة عليهم! لقد سقط رجالنا بين شقي الرحي.
واندفعت تغادر حجرة رئيسها وقد قررت أن تقتل المسئول الأول عن كل هذا مهما كان الثمن..
تقتل "عمر"..

*****

"لن يصل أحدهم إلى (سبايدر) أبدا"
قالها مدير السي آي إيه في غضب رهيب وهو يضغط عدة أزرار أمامه، ليبدأ برنامج جديد شديد التعقيد في العمل..
لقد هبطت ألواح فولاذية أمام مداخل ومخارج المقر كله لتفصل كل من بداخله عن من هم خارجه..
وكان هذا هو الإجراء الأول الذي يمنع أي رجل جديد من دخول المقر، خصوصا بعد أن عاد التيار الكهربي يسري في أسوار المقر..
وأمام كل هذا، وبعد أن عادت الأضواء للمكان، واتجه كل رجال السي آي إيه نحو "عمر" ورجاله، أصبحت نجاتهم مستحيلة..
ولكن "عمر" أشار للرجال بالتقدم داخل المقر وهو يصرخ في حماس:
- الله أكبر.
والتقى الفريقان..
وعادت الرصاصات تحصد الجميع..
وأثبت العرب مرة أخرى أنهم الأكثر جرأة ومهارة..
وتراجع الأمريكيون أمامهم..
إلا "أنجيل"..
لقد اخترقت صفوف رجالها في جرأة وكأنها لم تعد ترى أحدا إلا "عمر"..
لن تسمح له بخداعها إلى الأبد..
لن تسمح له بالنجاة..
وبمنتهى الشراسة صوبت مدفعها إلى صدره وهي تصرخ:
- اذهب إلى الجحيم..
وانطلقت رصاصاتها في غزارة..

*****

امتزج دوي رصاصات "أنجيل" بتبادل إطلاق ناري عنيف بين الفريقين، انتهى بسحق معظم رجالها وتراجع الباقين في رعب، وسقط كثير من رجال المخابرات العربية أيضا، قبل أن يصرخ قائدهم "وصفي شامخ" في غضب:
- سيادة المقدم! كلا..
فأمام عينيه مباشرة اقتلعت رصاصات "أنجيل" "عمر" من مكانه وألقت به في الهواء ليرتطم بالأرض وهو ينزف في غزارة غير مسبوقة..
وبكل غضبه وألمه ومرارته أدار فوهة مدفعه إلى هذه الأخيرة وأطلق رصاصاته نحوها..
واستقرت إحدى رصاصاته في رأس "أنجيل" مباشرة، لتجحظ عيناها وتسقط جثة هامدة على الفور..
وفور أن هدأ القتال، أسرع "وصفي" الملازم الأردني وقائد رجال الكوماندوز نحو "عمر" وهو يصرخ في فزع:
- رباه! إنه ينزف بشدة.. لن يحتمل جسده هـ ..
ولكن "عمر" اعتدل في ضعف شديد وناوله ورقة كبيرة، فنظر إليها "وصفي" ووجد رسما تخطيطيا لمقر السي آي إيه بالكامل وقد حدد "عمر" موقع (سبايدر) بمنتهى الدقة على الرسم عن طريق دائرة ضخمة، ثم قال في خفوت والدماء تسيل من بين شفتيه ومن كل ذرة في جسده:
- الـ.. الأقصى.. أمانة بين أيديكم.
وتحجرت عيناه وهو يقول بمنتهى الضعف:
- هل تعلم؟ لكم كنت أتمنى أن أصلي يوما قبل أن أموت في المسجد الأقصى.
وارتسمت على شفتيه ابتسامة وهو يتابع:
- ولكن لو لم ننجح في حمايته فلن يتحقق هذا الأمل أبدا.. احرص على أن يظل الأمل قائما حتى يحققه أبناؤنا وأحفادنا في المستقبل.. هل تعدني يا "وصفي"؟
تطلع إليه "وصفي" في ألم وأومأ برأسه إيجابا، في حين شخص بصر "عمر" واتسعت ابتسامته التي بدت متناقضة مع الدماء التي تسيل من كل مكان في وجهه، وهو يقول في خفوت شديد وقد بدا كأنه يرى شيئا ما أمامه لا يراه الآخرون:
- الحمد لله الذي.. صدق وعده.. ونصر عباده في كل زمان ومكان.
وفور أن نطق الشهادتين صعدت روحه إلى بارئها، فنهض "وصفي" في حزم وتغلب على كل آلامه وأحزانه وهو يقول لرجاله بمنتهى الإصرار والقوة:
- هيا يا رجال..
وانطلق الجميع نحو هدف واحد..
(سبايدر)..

******

يتبع بإذن الله ،،

موعد مع الكرامة.. الفصل الخامس

"يا له من فظ!"
قالها أحد رجال السي آي إيه القائم على حراسة المدخل الشرقي للمكان في سخط، فأسرع زميله الواقف بجواره يهتف:
- يا للشيطان! اغلق فمك يا رجل.. ربما يسمعنا.
صاح الأول وكأنما فاض به الكيل فلم يعد يهتم بأي شيء:
- وماذا في هذا؟ هل يغير من الأمر شيئا؟ ذلك اللعين لا يتوقف لحظة عن الحركة والانتقال بسرعة مدهشة من مكان لآخر، حتى أنه لا يسمح لأحدنا أن يطرف له رمش أو يغلق عينيه لحظة واحدة!.. ماذا يظن نفسه؟!
هتف الآخر:
- إنها أوامر السيدة "آدمز".. لقد أمرت أن نطيع أوامره بلا مناقشة.
ارتفع فجأة صوت صارم من خلفهما يقول بلهجة تجمد الدم في العروق:
- أحسنت يا رجل.
قفز الاثنان من مكانهما في ذعر، في حين أكمل "عمر" عبارته قائلا بنفس اللهجة:
- لن يعرف النوم طريقا إلى عيونكم أبدا حتى تحين لحظة الصفر.. هل تفهمان؟
أومأ الرجل الأول برأسه إيجابا في فزع وقد عجز عن النطق، فدار "عمر" على عقبيه وأسرع يراقب باقي المواقع، في حين ظلت "أنجيل" تراقبه من حجرتها عبر كاميرات المراقبة المنتشرة في كل مكان، وهي تقول لنفسها في ثقة:
- أحسنت يا "بيتر".
وفي سعادة انطلق عقلها متجاوزا الزمان والمكان وهي تتخيل اللحظة الحاسمة..
اللحظة التي يرسل فيها "سبايدر" إشارته الأوتوماتيكية إلى شبكة القنابل الموزعة بمنتهى الدقة طبقا لخريطة "إس جى 22" لينفجر الأقصى في لحظة واحدة ويتحول إلى أنقاض..
ارتجف جسدها على الرغم منها حينما تخيلت هذا المشهد ثم عادت تراقب "عمر" الذي يتحرك في المكان بمنتهى النشاط..
صحيح أن "بيتر" يبالغ بشدة في إجراءات الأمن ولا يسمح لرجل واحد بالنوم أو الاسترخاء لحظة واحدة، ولكن هذا لا يهمها ولا يثير قلقها نهائيا..
لقد تلقى رجالها تدريبات مكثفة ويمتلكون قدرة فائقة على تحمل المجهود الشاق وعلى مواصلة التركيز والانتباه لمدة أسبوع متواصل دون كلل أو ملل..
و "بيتر" يستطيع بكفاءته انتزاع كل طاقاتهم وشحن كل قدراتهم بذكائه المعهود..
كل شيء إذن يعني أن الأمور تسير كما خططت تماما..
وفي ثقة أكبر أطلقت ضحكة عالية جلجلت في المكان ورددت في ظفر:
- رجالنا كالأسود.. سيفترسون كل من تُسوِّل له نفسه الاقتراب من المكان.
نعم يا "أنجيل"..
رجالك كالأسود بالفعل..
ولكن الإيمان والعزيمة يحولان الرجل العربي إلى مخلوق أسطوري قادر على افتراس قطيع من الأسود..
وستثبت لكِ الساعات القادمة ذلك..

*****

"من الفرقة (ترمنيتور) إلى (الرأس المدبر).. نحن في مواقعنا وكل شيء يسير على ما يرام"
رفع أحد رجال السي آي إيه جهاز اللاسلكي إلى فمه وقال هذه العبارة في حزم وقوة، فجاءه الجواب بنفس اللهجة قائلا:
- من (الرأس المدبر) إلى (ترمنيتور).. أحسنتم.. ننتظر تقريركم الجديد بعد عشرة دقائق.
أغلق الرجل اللاسلكي ثم غمغم في ضجر شديد:
- هذا لو لم نسقط من شدة الإرهاق قبل أن نرسله.
سأله أحد رجاله في الفرقة (ترمنيتور):
- سيدي.. الرجال مرهقون بشدة.. هل يمكن أن نتناوب الحراسة و..
قاطعه القائد في صرامة:
- كلا.. هذا محظور تماما.. السيدة "أنجيل" ستقتل بنفسها كل من ينام لحظة واحدة الليلة.
ورفع صوته قائلا بلهجة مخيفة:
- هل سمعتم جميعا؟ لو سقطتم في النوم لحظة واحدة فلن تستيقظوا أبدا.
كانت عبارته كافية ليعود النشاط إلى أجساد رجاله، في حين اتصلت "أنجيل" بـ "بيتر" الذي يقف عند مدخل المقر وقالت في حزم:
- عشرة ساعات يا "بيتر".. عشرة ساعات فقط وستحصل بعدها على عشرة ملايين من الدولارات.
بدت لها لهجته عجيبة هذه المرة وهو يجيب:
- بالتأكيد يا سيدتي.
وقبل أن تتساءل عن سر هذه اللهجة لاحظت سيارة كبيرة للغاية تتجه مباشرة نحو المدخل الشرقي للمقر وتندفع كالصاروخ لترتطم ببوابته في عنف..
ودوى الانفجار..
وفي اللحظة نفسها انفصلت الفرقة التي تحرس البوابة الغربية إلى نصفين واتجه النصف الأول نحو البوابة الشرقية في حين ظل النصف الآخر يحرس المدخل الغربي..
وبسرعة البرق قفز "عمر" من مكانه وانطلق يعدو نحو حجرة "أنجيل" وهو يطلق رصاصات مدفعه ليطيح بكل من يعترض طريقه وينسف كاميرات المراقبة واحدة بعد الأخرى..
وبمنتهى الغضب والمرارة والحنق صرخت "أنجيل":
- خيانة !!
ولكن "عمر" لم يكن يهتم إلا بأمر واحد..
سيصل إلى مزود الطاقة الكهربية الذي حفظ مكانه عن ظهر قلب عندما أطلعته "أنجيل" على وسائل الأمن، وسينسفه نسفا حتى لو دفع حياته ثمنا لذلك..
وعلى شاشات الرصد لمحته "أنجيل" يعدو بكل قوته، وفهمت هدفه على الفور فصرخت في فزع:
- أوقفوا "بيتر".. إنه زائف.
واندفع الرجال من كل صوب نحو البطل..
وفي مهارة شديدة قفز "عمر" جانبا وتدحرج على الأرض وهو يطلق رصاصات مدفعه ليطيح بمن أمامه ثم يهب واقفا ويواصل العدو..
ولكن رصاصة صائبة اخترقت ظهره وأطاحت به مبنتهى العنف ليرتطم بالجدار ويهوي أرضا..
وعلى الرغم من الدماء التي تتفجر منه في غزارة والدوار الذي أحاط برأسه من كل جانب، نهض "عمر" مرة أخرى ليواصل عدوه..
ولكن رصاصة ثانية أصابت ذراعه الأيمن..
وثالثة في ساقه اليسرى..
وسقط البطل..
وفي لحظات لحق به رجلان وصوبا نحوه مدفعيهما في شراسة ودموية، فالتفت إليهما "عمر" وصرخ بكل قوته وهو يطلق رصاصاته:
- الله أكبر..
وانطلقت عشرات الرصاصات بالفعل..

*****

قبل أن يُطْلِق "عمر" تكبيرته كانت هناك قبلها بدقيقة واحدة تكبيرة أشد قوة تنطلق عند المدخل الشرقي..
لقد ظهرت فور ارتطام السيارة بالبوابة الغربية طائرة هليوكوبتر في سماء المكان وعبرت أسوار المدخل الشرقي ليقفز منها عشرات الجنود (الكوماندوز) وهم يكبرون ويهللون في حماس وأمطروا حراس البوابة بعشرات الرصاصات بعد أن انخفض عددهم في شدة فسحقوهم في لحظات، واندفعوا إلى الداخل..
ولمح رجال الكوماندوز جسد "عمر" الملقي أرضا فأسرعوا يمطرون رجال السي آي إيه برصاصاتهم في غزارة قبل أن يقتلوا هذا الأخير..
وفي ضعف، ابتسم "عمر" وقال:
- يا إلهي! لا زال في العمر بقية إذن.
عاونه رجال الكوماندوز على النهوض وهم يقولون باللغة العربية:
- المخابرات العربية.
غمغم "عمر":
- ماذا تعني بالمخابرات العربية؟
أجابه:
- أعني أننا فرقة تم اختيارها بمنتهى العناية من كافة أجهزة المخابرات العربية لتنفيذ هذه المهمة، وهي المرة الأولى التي يحدث فيها أمر كهذا، وبهذه السرعة.
ابتسم "عمر" في ضعف وقال:
- حمدا لله.
وأسرع يلتقط مدفعه ويقودهم على الرغم من إصاباته إلى حجرة المولد الكهربي..
وخرج إليهم عشرات من جنود السي آي إيه..
وكانت مذبحة..
مذبحة باسم الكرامة..
وباسم الأقصى..

****

يتبع بإذن الله ،،