مملكة الإبداع

إنها مملكة أهديها إلى أعز الناس، وأحب الناس، وأغلى الناس، فهي من أرشدتني إلى إنشائها وإليها أهدي كل الكلمات..

قضبان من نار.. الفصل الثالث

"احترس يا رجل وأنت تنقل هذه القارورة"..

همس إيزاك بهذه العبارة وهو يوجهها إلى زميله الذي ينقل قارورة صغيرة عن طريق أداة معدنية تشبه المشبك المعدني، لكنها أكثر طولا وسمكا على نحو يوحي بأنها مجهزة لالتقاط هذا النوع من القوارير، فأجابه الرجل في حزم:
- لو لم أحترس لكانت الخسائر فادحة.. أعلم ذلك جيدا.

مط إيزاك شفتيه وهتف في حنق:
- من يدري ما سيحدث عندئذ؟ ربما كانت كلمة فادحة هذه كلمة رقيقة للغاية بالنسبة لما يمكن أن يحدث.

وضع الرجل قارورته بحرص شديد داخل كيس بلاستيكي قوي ثم نقل الكيس إلى جهاز له تجويف دائري كبير، وتراجع مطلقا تنهيدة قوية قائلا:
- أخيرا.

زجره ماريو سباستيان في قسوة هاتفا:
- هل تعتبر أن ما فعلته يستحق كلمة (أخيرا) يا هذا؟ إننا لم نفعل شيئا بعد.

سأله إيزاك في توتر:
- هل تظن هذا حقا؟ لقد فصلنا الفيروس وقمنا بدراسته تفصيليا أكثر من مئة ألف مرة حتى حفظنا كل تتابع وكل كودون في تركيب حمضه النووي، إن هذا الفيروس ما هو إلا فيروس عادي له قدرة محدودة على التحور الجيني ولا يتسبب في أي إصابات قاتلة وله شريط واحد فقط من المادة الوراثية مما سهل فصله ودراسته.. هل تعلم ماذا حدث له حينما حولناه إلى "كيو 80"؟؟

أجاب سباستيان في توتر وهو يتابع عمل الرجال:
- بالتأكيد.. لقد تضاعفت قدرته على التحور الجيني بنسبة مليون في المائة، وأصبح بالفعل أخطر الفيروسات الموجودة على وجه الأرض فهو قادر على قتل ضحيته بعد ثلاث ثوان من انتهاء فترة حضانته التي لا تتجاوز الدقيقتين.. لقد رأيت هذا بنفسي يحدث للفئران.. لقد ارتفع ضغطها ستة أضعاف في دقيقة واحدة وانتشر النزيف الداخلي في كل مكان بأجسادهم حتى فشل الجهاز الدوري وتوقف القلب وانفجرت معظم الأوعية الدموية في الجسم مع تهتك أنسجة المخ.. إن الفأر منهم يتحول إلى مضخة من الدم بكل معاني الكلمة بعد أن تنفجر الدماء من كل نسيج حي لهم ويتحولون إلى أشلاء خلال دقيقتين.. إنهم حتى لا يجدون الوقت الكافي للموت بسبب الاختناق.

وهز رأسه وهو يستطرد في توتر:
- ولا يمكنني تخيل هذا الأمر حينما يحدث للبشر!

هتف إيزاك في حماس:
- الأهم من كل ذلك أننا نجحنا بالفعل في إتمام هذا التطوير دون إثارة أي نوع من المشاكل أو الاستنكارات حتى الآن، وأن خبراؤنا يؤكدون أن الشيء الوحيد الذي لا يمكن أن يتغير هو طريقة انتقال العدوى.. إن "كيو 80" لا يصيب الضحية إلا عن طريق الجهاز التنفسي فقط.

راقب الاثنان زملاءهما الأمريكان الذين يُعَرِّضون القنينة لوسائل مختلفة من التبريد والتسخين المفاجئ، والضغط الذي يتجاوز الضغط الجوي بعدة أضعاف، ثم قال سباستيان بنبرة انتصار:
- نعم يا إيزاك.. هذا يعني أننا في مأمن تام من الإصابة به يوما ما لأننا لا نتعامل معه دون أقنعة.

أطلق فجأة زميل أمريكي صيحة دهشة:
- عجبا !!

هب سباستيان وإيزاك نحوه وصاحا في توتر:
- ماذا دهاك؟؟

تطلع الرجل مرة أخرى عبر الميكرسكوب الإلكتروني الذي يستخدمه وهو يهتف بلهجة أقرب إلى الذعر:
- المفترض أن الفيروس خامل تماما خارج الأنسجة الحية، لأن الفيروسات بطبيعتها لا تنشط إلا داخل العائل الحيوي لها سواء كان بشريا أو حيوانيا، أما "كيو 80" فيبدو وكأنه فجأة اكتسب نوعا من النشاط دون وجود أي سبب منطقي لهذا.. يا للشيطان !! النشاط يزداد.. لا أفهم شيئا !

صرخ سباستيان:
- اقتله.

صاح إيزاك مستنكرا:
- هل جننت يا ماريو؟!

صرخ مرة أخرى:
- قلت اقتله.. اقتله عليك اللعنة قبل أن يقتلنا جميعا.

وهنا هتف العالم بكل ذهول الدنيا وقد كادت عيناه تقفزان من محجريهما من هول ما يراه:
- انظرا إليه! هذا مستحيل! مستحيل! مستحيل!!

فعلى شاشة البروجكتور التي تنقل صورة الفيروس تحت الميكروسكوب الإلكتروني، كانت هناك مفاجأة..
مفاجأة مذهلة..
ومرعبة..

********

"إلى هذا الحد؟!"

كانت هذه هي العبارة التي نجحت في تجاوز شفتي ماركوس مدير مركز الأبحاث حينما استمع إلى إيزاك في انتباه كامل، فصاح هذا الأخير مستطردا في انفعال:
- وأكثر يا سيدي.. هذا الفيروس يفكر.. نعم يفكر مثلنا تماما.. إنه ينشر حوله موجات مماثلة لموجات المخ البشري بأنواعها المختلفة، ألفا وبيتا وثيتا ودلتا، فتارة يهدأ ويقل نشاطه وتارة أخرى يزداد نشاطه بشكل رهيب حتى يصل إلى حد التهور.. الأمر الذي أثار ذعرنا بشدة هو ما يمكن أن يحدث حينئذ.

استمع إليه ماركوس في بكل حواسه وهو يستطرد:
- لو وصل الفيروس لقمة نشاطه، فإنه ليس فقط يستطيع التفكير واختيار العائل الذي يصيبه كونه عديم التخصص، ولكنه أيضا يستطيع الاندماج مع ذرات معظم المعادن المعروفة بل والسوائل وبعض الغازات، بحيث يستحيل تماما فصله عن أي ذرة بأي وسيلة فور أن يتم الدمج.

ارتجف صوت ماركوس على الرغم منه وهو يسأل:
- و.. وماذا لو حدث هذا؟ ماذا يحدث في المعدن أو السائل؟!

أجابه إيزاك في ثقة أسقطت قلبه بين قدميه:
- يشتعل.

ارتسم الذعر على وجه رئيسه لكنه تابع بنفس الثقة:
- نعم.. كما سمعت تماما يا سيدي.. يتحول إلى كتلة نارية محدودة.. والأدهى أن النار نفسها لا يمكنها أن تقتل الفيروس لأنه يستطيع تحمل درجات حرارة تصل إلى مائتي درجة مئوية، ولن يتوقف الفيروس عن الانتقال مطلقا إلا إذا هدأ نشاطه من تلقاء نفسه دون تدخل خارجي، مع احتمال نشاطه مرة أخرى.

تهاوى المدير فوق مقعده وغمغم في تهالك:
- سلاحنا يهددنا يا إيزاك.. يهددنا بشدة.

ابتسم إيزاك في فخر وقال:
- مهلا يا سيدي.. إيزاك لم يقل كلمته بعد.

رفع المدير عينيه إليه في لهفة فتابع بمنتهى الخبث:
- ولكنك لن تنسى مكافئتي.. أليس كذلك؟

هتف المدير في حرارة:
- بالطبع يا رجل.. تحدث.

تألقت عينا إيزاك ونصب قامته في اعتداد مجيبا:
- إنه لا ينتقل مطلقا عبر الرصاص.

تحولت عينا المدير إلى مصباح كهربي من شدة إضاءتهما وهو يصيح في مرح:
- مرحى يا إيزاك.. هل أنت واثق؟

أجاب في بساطة:
- تمام الثقة.

وعندما التقط إيزاك حقيبة ممتلئة بمئات الآلاف من الدولارات من يد رئيسه كان هذا إيذانا ببدء فصل جديد..
وحاسم..

2 التعليقات:

طبعاً الأسلوب لا جدال عليه ..
وتتابع الأحداث أيضاً وتسلسها ..
لكنني استوقفني الجزء المتعلق بنشاط الفيروس وتطوره فقد فاق الخيال بعض الشيء ..

رائع كالعادة دكتور محمد ..
بالتوفيق في ياقي القصة ، وفي انتظار جديد الأحداث بما تحمله من مفاجأت ..

خالص أحترامي وتقديري ..

 

نعم، هذه حقيقة شعرنا بها أيضا حينما بدأنا في تخيل ما يمكن أن يتميز به الفيروس الجديد عن الفيروسات السابقة، وكان من الطبيعي أن يمنح لنا طابع الخيال العلمي الذي تتميز به القصة مرونة فائقة في منح صفات أسطورية بعض الشيء لهذا الفيروس حتى لا تتشابه الفكرة مع أي فكرة سابقة على الإطلاق وحتى تزداد الإثارة ويشتعل التشويق في سبيل التعامل مع فيروس بهذه القوة..

خصوصا عندما تستمر الأحداث إن شاء الله ستجدين بنفسك أن الأمور لم تتوقف عند قدرات الفيروس فحسب بل تجاوزتها إلى أحداث جديدة زادت الأمور تعقيدا ولعل هذه هي نقطة التحول في أحداث القصة إن شاء الله..

بارك الله فيكم وفي تعليقكم المتميز ،،

جزاكم الله خيرا ،،ن

 

إرسال تعليق