ما هذا الذي يحدث؟ لماذا تسيطر هذه الفكرة على رأسي؟ لم أعد قادراً على الحركة أو الكلام.. كل ما أفعله هو التفكير.. وبمنتهى العمق..

صار الوجوم هو حالي دائماً.. أصبحت الحيرة والصمت ملازمَيْن لي أينما ذهبت.. هل تعلمون لماذا؟
إنها فكرة خطرت على بالي في إحدى الليالي التي لم يجد فيها النوم طريقاً إلى عينيّ.. فحَوَّلت حياتي كلها إلى حالة من التفكير العميق.. والقلق الشديد..

لقد أغمضت عينيّ وطار عقلي عبر الزمان والمكان وخُيِّل إليّ أن روحي قد فارقتني وصعدت إلى بارئها.. شعرت وكأنني فوق كل من حولي.. أراهم من حيث لا يروني.. وطرت أكثر وأكثر وابتعدت كما لم أبتعد من قبل..

رأيت منزلي.. ثم صار المشهد أوسع فأوسع فظهرت أمامي مدينتي كلها وأخذت أنقّل بصري فيها من منزل إلى آخر.. ولكن عقلي لم يتوقف عن الطيران.. وها أنا ذا أرى كوكبي.. ذلك الكوكب الذي تغلب عليه الزرقة وتكسوه بين الفينة والفينة مساحات خضراء واسعة..

أين أنا؟

لم ينجح ذلك السؤال الحائر في أن يوقف عقلي عن التحليق والطيران.. لم ينجح في أن يحرك جفوني ويجعلني أستيقظ مما أنا فيه.. هل أحلم؟؟

ولكن مشهد كوكب الأرض تغير في سرعة ووجدت نفسي أحدق في وجوه الكثير من الناس.. شيوخ ورجال ونساء وأطفال.. بعضهم يضحك في مرح والبعض الآخر يبكي في شدة حتى كاد أن يفقد بصره..

رددت مرة أخرى: أين أنا؟

دارت الدنيا كلها لأجد أمامي صحاري واسعة وجبال راسخة على مرمى البصر.. ولكن أين البشر؟ كل هذه المساحة دون أن يسكنها بشري واحد؟؟ رأيت أشجاراً وغابات وأنهار.. رأيت الأرض بكراً عذراء لم يمسسها بشر.. حتى أنني تخيلت نفسي أستنشق هواء نقياً عليلاً لم تلحق به الأتربة أو يؤثر عليه التلوث..

وترددت تلك الصيحة للمرة الثالثة داخل رأسي: أين أنا؟

دار كل شيء فرأيت أقواماً يرتدون ثياباً ترجع إلى العصور الوسطى ويقيمون في خيام وقلاع.. يتحدثون بلغات مختلفة ولا يعترفون إلا بمنطق القوة..

رأيت جيوشاً تزحف في كل مكان.. رأيت الحروب تشب بين الجميع دون رحمة أو شفقة.. رأيت الرجال يُقتَلون والنساء تُسبى والأطفال يؤخذون عبيداً والشيوخ يُذبحون بلا وازع من ضمير..

فتحولت صيحتي إلى صرخة: أين أنا؟

وهنا، أضاء ذلك النور ليغمر الأرض كلها.. رأيت من حيث أنا الكوكب كله يشرق بنور الله.. رأيت الأرض يعمها العدل والخير والسلام في كل مكان.. رأيت السباع تُسَبِّح لربها بين الأشجار في الغابات.. سمعت صوت التسبيح والتهليل والتكبير يدوي تحت الماء.. الأسماك والحيتان وكل المخلوقات تهتف بحمد ربها عز وجل..

فسمعت تنهيدة ارتياح تخرج من صدري ولكن السؤال ظل قائماً: أين أنا؟

ظل المشهد ثابتاً هذه المرة.. طويلاً جداً.. حتى أنني كدت أسأل السؤال نفسه مرة أخرى.. ولكن فجأة سمعت الصرخات والعويل.. رأيت الدموع تسيل والدماء تُسفَك والحرمات تُنتَهَك.. رأيت النور يخفت.. طغى الظلم والاستبداد على كل شيء.. شعرت بأن كوكبي يمر بأسوأ مرحلة عرفها منذ نشأته.. لم أستطع أن أغمض عينيّ حتى لا أرى الاستبداد والتعذيب يسري في كل شيء كالنار في الهشيم..

ثم وجدت نقطة صغيرة تشع ضوءاً خافتاً متقطعاً..

ولكن صرختي دوت هذه المرة: أين أنا؟

صمت كل شيء.. لم أرى ولم أسمع شيئاً.. حتى أنفاسي شعرَْت أنني لا ألتقطها.. ساد الظلام حولي فلم أعد أرى كوكبي ولا أعرف ما يدور فوقه..

"أنت ترى ما لا يراه الناس"

انتفض جسدي – أو لنقل عقلي – حينما سمعت هذه الإجابة بصوت هادئ وعميق وهتفت في ارتياع:

-أين أنا؟ ماذا يحدث؟ من أنت؟

"أنت حيث لا يستطيع غيرك أن يصل إليك"

ساد الصمت مرة أخرى ثم سمعت الصوت يُكمِل:

"ألم تفهم حقاً ماذا يحدث؟"

عاودني الهدوء وشملتني السكينة مع ذلك الصوت الذي يبعث الراحة في النفوس ووجدت نفسي أسترخي وأستمع..

"عندما تفكر وتدرك ما يحدث، ستعلم بلا شك مَن أنا"

"أرأيت يا بني كيف كانت الأرض؟ أرأيت الظلم والاستبداد؟ أسمعت أصوات البكاء والعويل والصرخات؟ هل شممت رائحة النار والبنادق والبارود؟"

"لقد سيطر الظلم كثيراً وطويلاً على مر الزمان وأنزل الله عز وجل رسله ليُخرِج الناس من الظلمات إلى النور ويهديهم إلى خير السبل.. فمنهم من اهتدى ومنهم من حق عليه العذاب.. ولكن حكم الله هو النافذ في النهاية.. لا مبدل لحكمه.. فكن يا بني مع من استمع إلى القول فاتبع أحسنه.. كن مع الله ولا تكن مع الشيطان"

"إن الحق قوي، وهو نور يمشي به جند الله في أرضه، وقد كان أجدادك من المسلمين بدءاً من أول أنبياء الله وانتهاء بخاتم المرسلين سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم نبراساً للهدى والحق.. وقد قال الله عز وجل عنهم: (من المؤمنين رجال صدقوا ما عاهدوا الله عليه فمنهم من قضى نحبه ومنهم من ينتظر وما بدلوا تبديلاً)"

"هل ترضى لنفسك يا بني أن تتنازل عن معية الله وحفظه وأن تعيش في معية الشيطان؟ لقد فعلها قبلك الكثيرون والكثيرون.. ألم تتساءل لماذا خفت النور بعد أن كان قوياً؟ لأن أبناء المسلمين وأحفادهم من بعدهم قد أضاعوا دينهم واتبعوا شهواتهم فضَلُّوا عن سبيل الله.. ضاع نور الحق بين الناس فصارت حياتهم ظلمة لا تُطاق"

"وهل رأيت يا بني تلك النقطة المضيئة التي لا تزال موجودة بعد طغيان الظلمة في كل مكان؟ إنه نور الحق.. الشعلة التي لا يزال المسلمون يحملونها.. الرسالة التي يؤدونها عن أسلافهم دون تعب أو كلل.. هؤلاء هم أحباب الله.. هؤلاء هم الغرباء.. ألم تسمع نبي الله صلى الله عليه وسلم يقول: (طوبى للغرباء).. ألا تعلم من هم الغرباء؟ إنهم (الذين يصلحون إذا فسد الناس)"

"إنه نداء إلى كل مسلم.. اتبع طريق الله وإياك والبعد عن سبيله.. حتى تكون من أصفياء الله وأحبابه وحتى تكون برفقة المصطفى صلى الله عليه وسلم في أعلى الجنان"

"هيا يا بني.. هل ستنصر ربك ودينك ونبيك أم ستخذلهم؟"

حاولت أن أجيب ولكن وجدت كل شيء يدور بي مرة أخرى وأظلمت الدنيا تماماً من حولي.. وفجأة وجدت نفسي جالساً فوق فراشي أدير عينيّ بين جدران شقتي وأكاد لا أصدق أنني قد عدت..

عدت من أين؟؟ لا أدري..

ولكنني فهمت..

وسمعت أذان الفجر يدوي وسط سكون الليل فنهضت لأتوضأ في نشاط وقلت لنفسي:

- الحمد لله الذي هدانا لهذا وما كنا لنهتدي لولا أن هدانا الله..