مملكة الإبداع

إنها مملكة أهديها إلى أعز الناس، وأحب الناس، وأغلى الناس، فهي من أرشدتني إلى إنشائها وإليها أهدي كل الكلمات..

تكملة الفصل الثاني 2

هبط (جون إدوارد) على سلالم فندق (هيلتون تل أبيب) في سرعة ورشاقة وهو يطلق من بين شفتيه لحنا أمريكيا شهيرا، ثم توقف أمام موظف الاستقبال وقال له مع ابتسامة كبيرة:
- صباح الخير.. سأخرج للتنزه قليلا.. إذا سأل عني أي شخص فقط أخبره أنني لست هنا، وإن كان يحمل رسالة فليتركها معك.
ثم مد يده في جيبه وأخرج شيكل إسرائيلي ووضعه أمامه وهو يقول في خبث:
- ولك مائة مثله عندما أعود.
تألقت عينا الموظف فتابع (جون) وهو يلوح بذراعيه مودعا:
- الآن إلى اللقاء.. لا تنسى أن تخبر الجميع أنني في نزهة.
وقفز داخل سيارته ثم انطلق بها في سرعة وهو يطلق ذلك اللحن الأمريكي، ولم يكد يبتعد حتى ظهرت سيارة كبيرة خلفه يقودها خمسة من الموساد الإسرائيلي، قال قائدهم في صرامة:
- انطلق خلفه يا (خزرو).. لا تدعه يغيب عن بصرك قط.
لاحظ (جون) السيارة التي تتبعه من بعيد، لكنه تظاهر بالهدوء وهو يتخذ طريقا طويلا يقود إلى أطراف المدينة، فغمغم أحد رجال الموساد:
- أين يذهب هذا الرجل بالظبط؟
قال القائد:
- ربما يتجه إلى الساحل، فالمفترض أن مجرد سائح.
رفع (جون) فجأة من سرعة سيارته وانطلق بها كالصاروخ عبر طرق فرعية فصاح قائد رجال الموساد:
- الحقوا به.. زد من سرعتك يا (خزرو).
انحرف الإسرائيليون في حدة خلف (جون) لكنهم وجدوا سيارته متوقفة على جانب الطريق، فأسرعوا يوقفون سيارتهم خلفها من بعيد وقال قائدهم في خفوت كأنما يتحدث مع نفسه:
- هنا؟ هذا الشارع حدثت به عدة عمليات انتحارية من قبل.. ترى هل يكون هذا الرجل على علاقة بالفلسطينيين؟؟
أثارته الفكرة في شدة فاستل مسدسه وأشار لرجاله فقفز الجميع خارج السيارة واتجهوا نحو سيارة (جون) في حذر وبطء إلا أن المكان كان صامتا تماما، فاتجه القائد نحو مقدمة السيارة ثم اتسعت عيناه في دهشة وهو يهتف:
- هذا الخدش لم ألاحظه من قبل!
انحنى أحد رجاله يفحص الإطارات والمحرك ثم ارتد فجأة كالمصعوق وهو يصرخ:
- بحق إسرائيل!! المحرك بارد تماما.. هذه ليست سيارة (جون).
اتسعت عينا القائد في هلع وفهم الأمر فجأة..
لقد خدعهم (جون) ولم يعد من الممكن العثور عليه مرة أخرى..
أبدا..

****

ساد الهدوء في منزل ريفي صغير يقع على مشارف تل أبيب قرب الساحل المطل على البحر المتوسط، وانهمك أربعة رجال وفتاتان داخله في مناقشة طويلة وهم يفحصون خريطة أمامهم لدولة إسرائيل..
وارتفعت طرقات هادئة على الباب فنهض أحد الرجال واستل مسدسا من حزامه وهو يسأل بالعبرية في حذر:
- من؟
أجاب (جون) من خلف الباب بالعربية:
- العصافير لا تغرد في المساء.
ابتسم الرجل عندما سمع كلمة السر، ثم أخفى مسدسه وفتح الباب وهو يقول:
- والعصفور الحبيس لا يغرد أبدا.. ادخل بسرعة.
قفز (جون) إلى الداخل فأغلق الرجل الباب خلفه، واستدار إليه واحتضنه في قوة وهو يهتف من أعماق قلبه:
- مرحبا بك يا سيادة المقدم.. إننا ننتظرك منذ أربعة دقائق.
صافح (جون) - الذي لم يكن سوى المقدم (عمر) - باقي الرجال الثلاثة وأومأ برأسه للفتاتين دون أن يصافحهما بيده، ثم جلس على رأس المائدة المفرود عليها الخريطة، وقال في سرعة:
- كنت أفر من مطاردة سخيفة.. المهم، ما هي آخر المعلومات؟
جلس الرجل أمامه مباشرة وأشار إلى نقطة واضحة في قلب تل أبيب وأجاب:
- هناك حراسة مشددة على منزل (إفرام).. من الواضح أن (إس جى 22) توجد هناك بالفعل.. المنزل نفسه صغير، تواجهه حديقة واسعة، وعن شرقه ساحة صغيرة يوقف فيها سيارته عندما يعود إليه، يحيط بالمنزل سور سميك يتجاوز ارتفاعه الأمتار الثلاثة ويسري خلاله تيار كهربي قوي.. توجد عشر كاميرات مراقبة في كل ركن، ويتناوب على حراسة المكان دستتان من الرجال..
عقد (عمر) حاجبيه في شدة، ثم درس موقع المنزل على الخريطة في حرص دون أن يعلق، وتساءل في عمق:
- ترى لو كنتم مكان إسرائيل، هل ستختاروا موقعا كهذا؟
لم يرد أحد، فنهض (عمر) وسار في الحجرة وهو يتابع:
- لم لا؟ طالما أنه محاط بكل هذه الحراسة.. إذن، يتبقى السؤال الأهم: هل يعلم أحد - باستثناء (إفرام) - بوجود (إس جى 22) في المنزل؟ دعوني أجيب هذا السؤال.. كلا بالطبع فلا يجب أن يعلم أحد بأمرها أصلا إلا عدد محدود من رجال الدولة.
ثم التفت فجأة إلى الرجال وسألهم في اهتمام:
- هل هناك مواعيد ثابتة لخروج الجنرال وعودته إلى منزله؟
أومأ أحدهم برأسه وأجابه:
- نعم.. يخرج في العاشرة صباحا تماما من منزله، ويزاول بعض تمارين الجري حول حديقة منزله، ثم يتناول إفطاره ويخرج، ولا يعود إلا في السادسة مساء.
صمت (عمر) تماما وهو يقلب الأمر من جميع جوانبه، وطال صمته هذه المرة لكن أحدا لم يتحدث، حتى تألقت عيناه في شدة وضرب سطح المائدة بقبضته وهو يقول في حماس:
- وجدتها.
وكان يعني ما يقول..

****

طرق (دافيد) باب حجرة مدير الموساد في حماس، ثم قفز إلى الداخل، فرفع المدير رأسه إليه وهو يقول:
- هات ما عندك.
ابتسم (دافيد) وأجاب في ثقة:
- هذا الرجل مثير للريبة يا سيدي.. لقد راقبناه كما أمرتنا عبر الأقمار الصناعية التي كشفت حركة سيارته لحظة بلحظة، وأمرنا بعض رجالنا بمطاردته لضمان بقائه تحت أعيننا.. ورغم أنه ناورهم في مهارة، لكن القمر الصناعي رصد حركته في دقة، فقد اتجه إلى منزل قرب الساحل وبقى داخله قرابة الساعة، ثم خرج منه وعاد مباشرة إلى الفندق.
شبك المدير أصابعه دون أن يعلق، فتابع (دافيد):
- هذا المنزل يخص ستة أشقاء، منهم امرأتين، وجميعهم من اليهود، ويقيمون في تل أبيب منذ عام واحد، لكنهم لا يستقرون طويلا.
رد المدير في سرعة وصرامة:
- أريدهم هنا.. حالا.
وتألقت عينا (دافيد) في شراسة..

****

انطلقت سيارة الجنرال (إفرام) تشق شوارع تل أبيب في سرعة، وقد أحاط بهذا الأخير داخلها خمسة حراس، بالإضافة إلى السائق، وعلى الرغم من ذلك تلفت (إفرام) حوله في حذر وحرص طوال الوقت..
وفجأة، ظهر رجل عجوز متغضن الوجه، ينحني ظهره على نحو بشع ويرتكز بكلتا يديه على عصا قصيرة، وهو يعبر الطريق أمام السيارة مباشرة..
وفي سخط، ضغط السائق فرامل سيارته ليمنع نفسه من الارتطام بالرجل ثم صاح في غضب:
- أيها العجوز الحقير! كدت أن أقتلك.. ابتعد عن هنا.
امتقع وجه العجوز واتجه إلى نافذة السيارة وهو يصيح في ضعف:
- أهكذا تعامل عجوزا مثلي؟ أهكذا تعامل عضوا في الكنيست ومجلس الشيوخ؟!
ضاقت حدقتا (إفرام) في شدة وأصابه التوتر بسبب هذه الكلمة الأخيرة، وقال للعجوز مع ابتسامة مرتبكة:
- عذرا يا.. أيا كان اسمك.. لكننا لم نقصد إغضابك.
اتسعت عينا العجوز وهو يتطلع إليه مباشرة ويهتف:
- (إفرام إليعاذر)؟! يا إلهي.. لقد تغيرت ملامحك كثيرا يا رجل.. دعني أصافحك، فقد افتقدتك في شدة.
مد العجوز يده عبر النافذة إلى (إفرام) لكنه شهق فجأة وسعل في شدة عدة مرات واحتقن وجهه، فقفز هذا الأخير من سيارته وحاول أن يساعده على التماسك وهو يهتف برجاله:
- الرجل يختنق.. إنه يحتاج إلى الإسعاف.
شعر رجاله بالدهشة وهم يرون قائدهم الذي كان يذبح الأطفال والنساء والشيوخ بلا رحمة وهو يتحدث بكل هذه اللهفة والعطف في حق الرجل، فقط عندما علم أنه عضو في الكنيست، لكن العجوز استند على (إفرام) بكلتا يديه وغمغم في تهالك:
- لا عليك يا ولدي.. إنني بخير.
ثم عاد يلتقط عصاه وهو يلوح بيده ويقول للسائق:
- في المرة القادمة عليك بالأدب في معاملة الشيوخ.
كتم الجميع ضحكاتهم، في حين احمر وجه السائق، وعاد (إفرام) إلى سيارته وهو يهتف:
- هيا.. فلننطلق.
وبمجرد أن ابتعدت السيارة، اعتدلت قامة العجوز وارتسمت على شفتيه ابتسامة ساخرة وهو ينظر إلى البطاقة المغناطيسية الخاصة بـ (إفرام)، والتي سرقها منه حينما استند عليه، ثم دسها في جيبه بسرعة واختفى عن الأنظار..

****

0 التعليقات:

إرسال تعليق